الشعب العراقي وسباته العميق.. والوعي السياسي حقائق وتدقيق..

مشاهدات



الصحفية والكاتبة 

ثائرة اكرم العكيدي 


أن لغياب الوعي جذوره التاريخية وخلفيته الاجتماعية وأن عقوداً من الديكتاتورية والشمولية زرعت الطاعة العمياء لدى المواطن وعلمته الخنوع والاستسلام صحيح أيضاً أن السطوة الثيوقراطية الموروثة المستحوذة على عقل المواطن أفرغته من قدرته على التحليل وممارسة الاختيار الحر، لكن الأمور في المآل الأخير تقنعنا أن من يستحق اللوم في الملهاة التي تجري في العراق، هو المواطن الذي يحمل بؤسه على ظهره، ويعاني من سبات العقل وقبح الزلل، إلى درجة أن صوته لم يعد يساوي أكثر من بطانية، أو مدفأة نفطية أو مقعد في حافلة متهرئة تأخذه لزيارة الحسين عليه السلام . او لنازح ترك داره وماله وعزه وسكن مخيمات مهتريه هو وعائلته ليرضى بسلة غذائيه عبارة عن كيلو سكر،وبطل زيت ومقدارا ضئيلا من الرز والطحين 

لا تعجبوا بعد ذلك، إذا ما أعيد إنتاج الديكتاتورية، وظهر مخلص جديد، يزعم أنه مبعوث العناية الإلهية لإنقاذ البلاد والعباد.سايكلوجياً توجد في داخل كل انسان حياة بكل معانيها الوجودية، في داخل كل منا جزءٌ في الكرامة البشرية، والشرف الأخلاقي، والخبرات الوجودية الحرّة، لكن لدى كل منا في نفس الوقت وبدرجات متفاوتة، القدرة على التأقلم أو الرفض مع الحياة السياسية، فمن تأقلم بطريقة ما يغرق في تصديق بعض الأكاذيب الفاحشة، لأنها ببساطة تمثّل هويته الدينية أو اللغوية أو الجهوية أو العشائرية، حتى أصبحت السلطة ضبابية غير واضحة الصورة، ليذوب كلٌّ منا في شعائرها، ويسلم مقاليد أموره لها، وأحياناً يبدو الأمر وكأنه صار هو الشعيرة نفسها التي تحمل الناس من الظلمات الى نور السلطة، لأن الكثير منا عبيد الشعائر المتنكرين.فالأمر إذن ليس صراعاً بين مجتمع ونظام سياسي فقط.بل إنه شيء أسوأ من ذلك إنها أزمة الوعي السياسي نفسه.يعتبر الانقياد لغير الله انحطاطا ما بعده انحطاط، ولا يرضى الإنسان الشريف بأن تذل نفسه، أما وضيع النفس والشيم فيستسهل حياة الذل وإقرار الضيم عليه عن قناعة لا لجبن أو جهل، لأن الذليل في الغالب تكون نشأته قائمة على الذل.

الكل يعلم وسمع بالمرياع في حياتنا اليومية كم من المراييع نقابل، وكم منا من يتبع هؤلاء إما لحلاوة كلامهم أو لحسن مظهرهم أو حتى صخبهم، ومنا من يتبعهم لأنه تحت سلطتهم ويظن أنه ما بيده حيلة إلا اتباعهم، مع علمنا بأن هؤلاء ليسوا بقادة إنما هم أداة في يد الراعي وأنهم ما يتبعون إلا حماراً اجلكم الله .

كل هذه الصور الغرائبية السوداء تفضح غياب الوعي لدى معظم الناس، وتكشف أنهم اعتادوا الخديعة وألفوها، حتى صدقوها وعملوا بها، وكان أن فقد المواطن العراقي حقه الشرعي في الاختيار الحر بإرادته، وتلك هي إحدى العقد المستعصية في أزمة بناء الديمقراطية، ليس في العراق فحسب، إنما في العالم العربي كله الذي تنعدم فيه إرادة سياسييه ومثقفيه للتغيير.

من اهم الظواهر التي يتحلى بها المواطن في مجتمعنا وأشدها بؤساً وأكثرها ضرراً غياب الوعي، وبروز الحس الطائفي خاصة فترة الانتخابات  لدى معظم الناخبين، وليس عند معظم المرشحين فحسب نحن الكتاب ننكر ذلك حتى الساعة الأخيرة قبل ظهور الدخان الأسود من أفران التصويت. كنا نقول إننا تخطينا الخلافات الطائفية والعرقية، وإننا شعب واحد، لا يقبل القسمة، وأحبطنا خطط الأميركيين والصهاينة وبول بريمر في أن نتفرق، بحيث يتوكأ بعضنا على طائفة، وبعضنا على عرق، وبعضنا على عشيرة أو مدينة أو حتى على قرية صغيرة.

الكارثة الإجتماعية هي كيف نقوم  بتكوين الوعي صقله وبلورته  لكي يفهمه البعض لقد بات المواطنون يجدون في التشظي حلا لكل مشكلاتهم ليوم أو بعض يوم لشهر أو بعض شهر ولسنة أو بعض سنة، فالتشظي ذاته لن يطول وسوف تتجسد مشكلات لا حصر لها سمتها الوحيدة دما يسري في أنهر جافة وفي صحارى جافة وعلى سفوح جبال جافة. المكونات الثلاثة بالأقاليم الثلاثة لو إنفصلت تماما عن بعضها والتي بات يتمناها الناس دون التفكير بالمركزية واللامركزية وحقوق النهجين، فإن التقسيم يصبح حلا تدميريا وسوف يصيب المجتمعات الثلاثة بمقتل! ويقتل بينهم مسيحيون طيبون وصابئة طيبون وأزديون طيبون وشبك طيبون. وستكون لنا أوطان بلا عنوان وبلا هوية وبلا راية خفاقة وبلا نشيد وطني .

منذ انهيار النظام العراقي السابق، بدأ الحديث عن انهيار القيم التي كان المجتمع العراقي يرتكز عليها، في محاولة لفهم التحولات التي طرأت على هذا المجتمع، لا سيما الوعي الذي بدأ بالتغيّر منذ ستينيات القرن الماضي وصولا إلى العام 2003، ولهذا الانهيار أسباب عدة، ربما من أهمها السياسات الخاطئة  بعد العام 2003، فضلا عن الاقتصاد العراقي الذي دفع العديد من الاسر على إجبار أبنائها على ترك المدرسة واللجوء للعمل من أجل كسب لقمة العيش، وفي الوقت نفسه اندثار المكتبات المدرسية التي كانت أحد أسباب صناعة الطبقة المثقفة في العراق، وفقداننا للمكتبات المركزية في المدن، حتى وإن بقي بعضها، لكنها لم تكن فاعلة بالشكل المرجو منها.

إن ما حصل بعد العام 2003 لم يكن الا تعبيراً عن تراكمات لعقود طويلة من انعدام وخمول الوعي السياسي، من فقدان الهوية الوطنية العراقية، من ضعف المشاركة السياسية وانعدامها، من تفاقم قوة العشيرة وفرط التقديس لرجل الدين، والعادات والتقاليد، وأدى ذلك الى سيادة العنف، حيث كانت عمليات العنف المتبادل بين مكونات المجتمع العراقي خلال اعوام (2005، 2006، 2007) خير دليل على أن الاعتراف بالآخر الديني، أو المذهبي، أو القومي أمر صعب، فالجهد كان منصباً على الغاء الآخر لا التواصل معه، بالرغم من أن هذه المسألة لم تكن عامة، لكنها كانت مؤثرة، وانتجت نتاجاً قبيحاً من تهجير،ونزوح وتركت  أثرا عميقا وجرحا مفتوحا في نفوس الشعب العراقي، وهذا كان أحد أوجه التعبير عن ضعف الانتماء للهوية الوطنية الجامعة في العراق .

ليعلم المواطن العراقي مهما كانت شهادته ومهما كانت مكانته في المجتمع ان الوعي السياسي مطلوب منه ليدرك  واقع مجتمعه ومحيطه الاقليمي والدولي, ومعرفة طبيعة الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تحيط به, ومعرفة مشكلات العصر المختلفة, وكذلك معرفة القوى الفاعلة والمؤثرة في صناعة القراروطنياً وعالمياً. والوعي السياسي هو طريق الفرد لمعرفة حقوقه وواجباته في كل الانظمة الديمقراطية أوالشمولية. والمجتمعات التي تنوي التحول من النظام الدكتاتوري الى النظام الديمقراطي بحاجة الى منظومة من المعارف السياسية التي تتضمن قيم وأتجاهات سياسية مختلفة, يستطيع من خلالها الفرد التعرف على الظروف والمشاكل التي تحيط به محليا وعالمياً, ويحدد مكانه وموقفه منها والمساهمة في تغييرها أو تطويرها. ولذلك يحتاج الفرد الى رؤية سياسية واعية وشاملة بالظروف والازمات التي تعتري المجتمع, ليكون مدركاً لمسؤليته وناقداً للسلوكيات الخاطئة التي تمارس من قبل السلطات الحكومية.

وبما ان مفهوم الديمقراطية في العراق مفهوم غائم وغير واضح بسبب عدم توفر أسس ومسلتزمات البناء الديمقراطية. لان التحول والبناء الديمقراطي يتطلب تنسيق ثقافي وسياسي في أنماط السلوك والعلاقات بين الدولة والمجتمع وبين مختلف القوى السياسية والاجتماعية وبين الأفراد والجماعات.

فبالتالي غياب الوعي السياسي يضع الديمقراطية الواعدة في خطر, ويفتت مفهومها ويفقد سلوكها السليم, ويضيع الفرص المناسبة على الشعب العراقي للالتحاق في صفوف الدول المتقدمة ديمقراطياً, فلابد للقوى السياسية الاهتمام بالوعي السياسي لانجاز مشروع الديمقراطية في العراق وتعزيز مفهومها بشكل صحيح.

فالديمقراطية ليس فقط مجموعة من الأفكار والمبادئ تكتب في نص الدستور, وإنما هي ممارسة وسلوك مجتمع متكامل لتلك الأفكار والمبادئ والحقوق. لذلك يعتبرالوعي السياسي للمجتمعات هو الأساس في التطبيق الفعلي للديمقراطية. وأن أي أنخفاض في نسبة الوعي يهدد الديمقراطية كمفهوم وسلوك. وعلى الرغم من تطلعات الشعب العراقي الى بناء مجتمع ديمقراطي, إلا أنه يعيش حالة من التسطيح الفكري لمفهوم الديمقراطية. وهذا التسطيح ينعكس سلباً على الانجاز الديمقراطي البطئ في العراق الذي جاء من أجله التغيير. وهنا تقع مسؤلية الوعي السياسي تقع على عاتق فئة المثقفين والاكادميين  ومنظمات المجتمع المدني والوسائل الاعلامية والبرامج السياسية الناجحة الغير،منصاعه لحزب ما  فلابد للمجتمع أن يدرك أهمية وقيمة الوعي السياسي وسبل تكريس حالة الوعي لمفهوم الديمقراطية , ومساندة الاصوات والقوى السياسية التي تنادي بالاصلاح السياسي الحقيقي الصادق وليس الاصلاح المزيف  وتطوير المجتمع العراقي ديمقراطياً, وتحريك عجلته السياسية والديمقراطية من الركود والتحجر الذهني الى الانفتاح الفكري السياسي والثقافي, وذلك من خلال تطبيق مفهوم الديمقراطية باساليب وأدوات حديثة تتناسب مع مقاييس الفهم الدولية, وتنسجم مع منظومة المجتمع العراقي الأخلاقية والثقافية والتاريخية والدينية .

وأن التناقضات والانقسامات والاحتدامات التي تعيشها معظم القوى السياسية العراقية داخل تنظيماتها وخارجها, التي تركت ظلالها على الشارع السياسي. سببها هو عدم قدرة تلك القوى على وضع خطط ستراتيجية مناسبة لتطويرعلاقاتها السياسية وتحريك أجوائها السياسية الراكدة. 

هناك عوامل عديدة تتدخّل في صناعة الوعي وترسيخه في اي مجتمع ما، منها دينية وايديولوجية، واجتماعية ترسّخ مجموعة من القيم والعادات والتقاليد، كما تحيط الفرد بمنظومة مغلقة على ذاتها غير قابلة للتفتت أو الانفتاح، وبالتالي فإنَّ الوعي الفردي والجماعي لا يكاد يفلت من هيمنة هذه الخطابات المغلقة.

وان الجهود الفردية التي تبذلها النخب الواعية غير قادرة بمفردها على اختراق الجدار الصلب للوعي الفئوي الذي رسخته السياسات الخاطئة، وكان من نتائجها نكوص المجتمع وتقهقره ليتحول من مجتمع مدني في خمسينيات وستينيات وسبعينيات  القرن الماضي إلى مجتمع اثني قبلي يعتاش ضمن مسلّمات أكل الدهر عليها وشرب، مجتمع محاط بخطوط حمراء وتابوهات يخشى تجاوزها، وعليه فإنَّ واحدة من ضرورات استنهاض الوعي في مجتمع ما هو تحطيم هذه التابوهات ووضعها موضع سؤال وجدل ومحاكمة وصولاً إلى تفتيتها وإعادة بنائها من دون أن يعني ذلك الانقلاب جذرياً على قيم المجتمع وثوابته وإنما من أجل تفكيك وبناء منظومة قيم جديدة بشكل انتقائي لا تراكمي كما يحصل حالياً وأن نستفيد من التجارب العالمية من دون أن تتحوّل هذه التجارب إلى مثال أعلى فلكل بيئة ومجتمع خصوصياته ولعل السنوات العشرين الماضية  أثبتت فشل الديمقراطية لأننا استوردناها من دون توفير الأرضية الملائمة لها، وهي حالة تشبه إلى حدٍ ما زراعة نبتة نادرة وقيّمة ومثمرة في بيئة لا تناسبها، الوعي هو حالة فردية وجماعية دينامية ومتجددة منفتحة لا منغلقة، وهي في حوار دائم مع قيم المجتمع الراسخة بغية التغيير وإحلال قيم جديدة بديلاً عن قيم بالية بشكل ناعم خشية الممانعة والتعنت، بما ينسجم ومتطلبات المرحلة ويتفاعل مع التحوّلات التي يشهدها العالم.

الآن تنازلنا عن الثقافة المرتبطة بوعي الإنسان إلى البدائل ومنها النظرة السطحيّة للحياة واستساغة المرارة والآلام وهذه قد أكلت من وعي وثقافة المجتمع الكثير، مقارنة بالفرق الشاسع بين تطوّر الدول المجاورة، والبعيدة ونظرتها إلى عالم التكنولوجيا في تحديد مستقبل الأجيال ولو بعد ثلاثة عقود، أليس هذا من ثمرات الوعي الملازم للحرية، والمؤثر في المجتمع.

نحن نحتاج إلى مراجعة ثانية وثالثة للمناهج وحتى الطرق على النصوص التاريخية، والدينية من أجل التقارب وقبول الرأي والرأي الآخر، وعسى أن نتدارك الوعي وإن كان متأخراً 

وعلى المواطن الفاهم اذا اراد لنفسه ولوطنه التغير للاحسن عليه ان يبتعد عن الوضع الشائك الذي يتداخل فيه السياسي بالديني، والجهوي بالعشائري، وتلعب فيه الرواسب والأشباح دوراً كبيراً لأنّنا واقعياً لم نصل بعد إلى التمييز الدقيق بين ممارسة الحكم وإدارة الشؤون العامة داخل المؤسسات التي تؤطرها الدولة بصفتها الراعي الرسمي والوحيد لتسيير الشأن العام.  

ولأهمية الوعي السياسي في المجتمعات النامية ديمقراطياً يعزز من رؤية الفرد لقضايا وطنه وأمته والظروف التي تأثر في المجتمع بصورة تحليلية واعية. والعراق اليوم هو أحدى الدول النامية ديمقراطياً, فهو بحاجة الى وعي ثقافي وسياسي شامل وواسع, لينظم من خلاله صفاته وأهدافه ويحرك مفاهيمه للديمقراطية الوليدة نحو الممارسة والسلوك في المجتمع. وتعبئة المجتمع ثقافياً وسياسياً يحصن الجبهة الداخلية الوطنية ويوحد صفها, ويقوي هيبة الدولة ويعزز دورالحكومة والقانون, ويفسر حالة المجتمع وظروفه. وأهمية الوعي السياسي في المجتمع يعد مطلباً لتحقيق الديمقراطية وتجذيرها في عمق المجتمع لتحقيق العدالة والمساواة , وكذلك يعمق معاني الانتماء والولاء للوطن. لان التنمية السياسية هي حالة أجتماعية ثقافية لايمكن ان تقوم بمعزل عن المجتمع.

إن غياب الوعي السياسي له آثار سلبية على بناء المجتمع سياسيا وديمقراطياً, وكذلك يفقد الرؤية الواضحة لنضوج المجتمع سياسياً وثقافياً, ويجعل قيم الحياة تنهار وتفقد توازنها وبريقها من فضاء المجتمع. وأن أي تراجع أوضمور في مسيرة بناء الوعي السياسي يعطل دور المجتمع ويطفئ جمرة العقل البشري. وفي ظل غياب الوعي لايمكن لأي شعب أو مجتمع التعرف على واقعه ورصد مواطن القوة والضعف والعوامل المؤثرة فيه. وبذلك من الصعوبة جدا التكهن بتداعيات الظروف السياسية التي تحيط بالمجتمع, وذلك بسبب عدم فهم أسلوب اللغة السياسية المثالية التي يستقرء بها العالم المتحضرلأحداثه السياسية .وتنشيط الوعي السياسي في المجتمع له أهمية في تنوير بصيرة المواطن بحقوقه المدنية والقانونية والتزاماته الدستورية في المجتمع. ودائرة الوعي السياسي يجب أن تركز على شريحة الشباب لانهم أكثر ضرورة في تفعيل السلوك السياسي والديمقراطي في المجتمع. لكون الشباب طاقة كبيرة تساعد المجتمع في القضاء على ظواهر ومظاهر العنف والاكراه والاقصاء والتهميش. واللجوء الى لغة العقل والحوارفي كل الأزمات والتداعيات على أسس ديمقراطية. ودعوة الشباب من كلا الجنسين لاشراكهم في العمل السياسي يعزز دورالتجربة الديمقراطية في ميادين العمل السياسي والاداري من خلال توليهم مناصب قيادية في الدولة. وتعزيزالثقة والايمان بتلك الشريحة الواعدة ينظم العمل السياسي في الأُطرالديمقراطية للمجتمع .

لقد شهد الشارع العراقي تطورات ومتغيرات متسارعة وفاجعة  في منظومة القيم بعد سنة 2003، وتلك التطورات طالت مختلف مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لتؤكِّد ضرورة متابعة مجريات وتغيرات الحياة اليوميَّة، ومدى تأثيرها على المشهد السياسي بشكلٍ خاصٍّ، وما يتطلَّبُه ذلك مزيد من التعديلٍ والتطوير في منظومة الفكر البشري وأعادة انتاج الوعي السياسي .

ومن أجل المحاولة باعادة الوعي المجتمعي إلى وضعه الطبيعي عدّة نقاط، منها إعادة مفهوم الدولة وبناء نموذج مختلف لرعاية المجتمع وتثبيت مفهوم المواطنة، واعطاء دور لمنظمات المجتمع المدني والحكومات المحلية لرعاية الإنسان في مناطقها، وتحريك أعمدة الثقافة بعد أن يؤمن المواطن بثقافة البيئة التي يعيش فيها المنطقة، الآثار، المراكز الثقافية الفن والتواصل مع الآخر، واشراك المواطن في اتخاذ القرارات التي تمسُّ حياته، ثقافياً أو سياسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً، وتغليب ثقافة التسامح والتعايش السلمي  ووضع برامج تحفيز ثقافة الثقة بالدولة، والتركيز على أهمية التعليم النوعي ومعالجة حالات الانكسار والتراجع في مستويات التعليم، وعرض تجارب دول مرّت بأزمات تشبه أزماتنا وتجاوزتها لفهم الخلل الكامن في هذا التخبط .

عندما تتمكن الدولة من ترسيخ الشعور لدى المواطن بأهميته وقيمته العليا سيكون الإنسان حينها واعياً بوجوده ومن ثم بقيمة البلد الذي يحتويه، كما ستفرز الدولة القويّة مؤسّسات مجتمعية قوية وجادة، وستؤدي جامعاتها ومؤسّساتها الثقافية دورها بصورة تتناغم مع جدية الدولة، فالوعي والثقافة الجادة نتاج الجامعة الجادّة والمؤسسة الجادّة والثقافة الجادّة، وكلُّ هذه الأمور نتاج دولة جادّة، والعكس صحيح، فعندما تكون الجامعة والمؤسسات البحثية والثقافية ودور السينما والمسرح بنية مكانية تدميرية ستتجاوز أسوارها وحدودها، وستتمكن بلا شك من فرض هيمنتها الثقافية، وتصدير قيمها التنويرية إلى المجتمع، أما إذا كان العكس بأن كانت تلك المؤسسات بنية صيانية غير مؤثرة، تحاول الحفاظ على السائد والمألوف، فستكون حينها عرضة لموجات من التجهيل وتغييب الوعي ونحن تليوم باشد الحاجة للوعي بكل مجالاته والثقافة بكل اوجهها حتى  يطرزا وجودنا الإنساني.

أن مركب الوعي الاجتماعي ومديات قياسه عراقياً خلال  بفعل التطورات والتحولات الراديكالية خلال المدّة المنصرمة، وإذا كان العام 2003 من أبرز تلك الانعطافات، فإنه لا يزال حتى الآن في طور الانتقال غير المكتمل على الرغم من صبغة الانتقال من النظام الشمولي إلى النظام شبه الديمقراطي الغير حقيقي غير أنَّ بقاء فلسفة الاقتصاد الريعي فاعلة ومن مخرجاته الثقافية أن يعوّل على الدولة في صناعة وعي الفرد والمجتمع بالطريقة التي تصوغها بوصفها ممسكة لوسائل الإنتاج المادّي والمعرفي ومحتكرة له، وبعيداً عن نكهة التشاؤم، فإنَّ وعياً مجتمعياً فاعلاً في محيطه الذاتي والجماعي لم يتحقّق ما لم تتوفّر فيه مجموعة شروط واقعية من قبيل مواجهة التشظّي الهوياتي العميق، وتعديل مسار مناهج التعليم بمختلف مراحله وإحكام مباني الدولة الحديثة وعناصرها كما هي تجارب الدول الصاعدة.

لهذا يرى الكثير من المثقفين والمراقبين أن الانهيار الذي حصل في الوعي المجتمعي خلال العقد الماضي  بحاجة لإعادة بناء في مدة لا تقل عن مراحل الانهيار، لكن بخطوات مدروسة .لذا علينا العمل على إلغاء ثقافة الخضوع والواجب وتحجيم ضعف الوعي الثقافي والسياسي في العراق من خلال نشر ثقافة سياسية مشاركة قوامها الولاء للوطن وليس الولاء إلى فئة معينة أو مذهب أو طائفة أو قومية معينة، ثقافة تحل محل ثقافة العنف وتنبذها، وهذا يمكن أن يتحقق من خلال حث مؤسسات التنشئة الاجتماعية والتزام مؤسسات التنشئة السياسية على نشرها كلاً حسب طريقة عمله.

ولاننسى الكرامة وعزت النفس هي ركن اساسي للوعي فلا شيء يعادل في قيمته كرامة الإنسان وعِزتَه، وأغلى ما يملكه الإنسان بعد حياته كرامته. والكرامة في أبسط تجلياتها عزة النفس ونخوتها. ثم ابتعادها عن كل أشكال الإهانة وتجنيبها كل تحقير أو تبخيس، سواء من طرف الآخر أيا كان هذا الآخر  أو من طرف الذات نفسها. لكون الإهانة قد تكون نابعة من طرف الذات كذلك، حين يسمح الكثير من الناس بإهانة أنفسهم وذواتهم، وبوضعها أو تعريضها لمواقف تبخيسية ومشينة: وهذا، ربما، من أخطر أنواع الإهانة وأشد من القتل .اليوم نرى كثيرون ممن يتاجرون بكرامتهم فكل  مفكر يبيع كرامته هو محسوب على الفكر وكل كاتب أو محسوب على الكتابة  وكل صحافي أو محسوب على الصحافة  وكل فنان أو محسوب على الفن  تخلى عن دوره الحقيقي في التشبث بنشر الوعي والنقد الموضوعي والتقويم، وسَخّر فكره وقلمه وفنّه لغير الحق والتنديد بجرائم الفساد واغتيال عدالة ممكنة وديمقراطية ممكنة .

تضيع كرامة ومصداقية من يرى  القِط ويقل إنما هذا أسد وليس قطا تفقد مصداقيتها كل المواقف الزائفة. والقضايا الزائفة. والسياسات الزائفة. والإصلاحات الزائفة. والانتصارات الزائفة.

فكيف ننسج من جديد وعياً مجتمعياً ثاقباً تتشارك فيه النخبة والعوام الرأي من دون عقد الاستعلاء والفوقية، الحقيقة أنَّ أي حديث عن صنع وتدبيج وتشكيل هذا الوعي لا يمكن أن يغفل دور المثقف بوصفه المحور الأول لخلق هذا الوعي، المثقف الفعّال الذي لا يشغله التنظير بقدر ما يشغله الحراك المحتدم في الشارع ومدى قدرته على تحليله وإعادة إنتاجه مقولات ثقافية تردم الهوّة وتعيد تجسير العلاقة المهمة بين رأي النخبة والعوام.

اخيرا اقول لا يمكن حدوث الإصلاح ولا يُمكن نزول المدَد بدون تغير حقيقي وجذري وأخلاقي وفكري بالنوايا والأعمال في الوسط العراقي شيعي كان ام سُني وان النار المنبعثة من المعاناة هي النور الذي يضيء الوعي  فالمجتمع بحاجة الى ثورة على الذات وتغيير للنفس كي يُغير الله ما به وكل خطوة طيبة من المجتمع سيقابلها الله بتوفيق سياسي وعون عسكري ومَدَد فكري وسند اجتماعي ، فنهاية هذه الأزمة تكون سهلة إذا تواضع المجتمع لله فقط وقَبُل أن ينتقد نفسه ويثور على ذاته ويُغيّر أخلاقياته ويكون ولائه لوطنه فقط ..وهناك مثل يقول: (الوعي المتاخر،خير الحماقة المستدامة )

إرسال تعليق

0 تعليقات