العم إلياس الموصللي أسطورة عصره!

مشاهدات




موفق الخطاب 

 


نطوف بكم في هذه الأيام المباركات من رمضان الخير بعيدا عن السياسة ووجوه السياسيين الذين قلما تجد في محيا احدهم ما يريح النفس ولا أثرا من رحمة أو مسحة نور ، لنطوف بكم في عالم الروحانيات لننقل لكم قصة حقيقية مؤثرة عايشناها في طفولتنا وصبانا …


مقالنا اليوم هو من قصص الواقع والزمن الجميل الذي غادرنا للأسف، وربما إلى غير رجعة.

ما سأسطره لكم سادتي هو ليس قصة في مسابقة القصص ولا الروايات القصيرة، بل هي قصة حقيقة سجلها الزمن في سفره وصفحاته، تحكي لنا عن طيب سريرة أسلافنا ومراقبتهم لله وتقربهم اليه في السر والعلانية ، وربما ببركتهم

دفع الله عنا في حينها البلايا والمحن والفتن والرزايا إلى حين..

اليكم هذه القصة التي عايشتها ولم يروها لنا احد..

ففي خمسينيات القرن الماضي فتحت عيني وأنا يتيم الأب فقد رحل والدي عن هذه الدنيا وأنا لم أشعل الشمعة الأولى من عمري، وتكفلت والدتي الصابرة المحتسبة رحمها الله المسؤولية في رعاية العائلة، وكانت الحياة في حينها بسيطة ، ولا يوجد شيء اسمه توظيف النساء ولا الإعانات الحكومية ولا الجمعيات الخيرية التي تتكفل بالأرامل والأيتام، لكن كان هنالك التكافل المجتمعي والأسري والعشائري في أبهى وأحلى صوره ، بحيث غطى بل فاق دور كل اشكال الجمعيات .

ولكون أن أغلب الأسر كانت عفيفة مقتنعة برزقها، فلا تقبل الصدقة والزكاة ولا يأخذها إلا مستحقيها فعليا فكان الناس يتحلون تماما بالقناعة والزهد عن  ما يدفع فعلا اموال الصدقات والزكاة لمستحقيها ،ولا يستنكف اي رب بيت بأن يتكسب الحلال بأي عمل شريف ولا يوجد شيء اسمه عالة أو بطالة.

وبالرغم من تكفل عمي رحمه الله بالأيتام الصغار وقد ادى ما عليه من عمله البسيط كادحا  الى ان توفاه الله وما زلنا صغارا ، لكنه كان أيضاً يعيل عائلته وبالكاد يقوم بحملهم، فآلت الأم الحنون تلك المربية الفاضلة بعد ان ضاقت عليها الدنيا بما رحبت بعد أن مات المعيل الحنون  أن تتقن مهنة منزلية ليعيش الأيتام في بحبوحة ولا تشعرهم بقسوة اليتم والجوع  وتعلمت أن تخيط الملابس النسائية في البيت بعد أن باعت جزءاً من حليها وجلبت بسعرها ماكينة خياطة، ومازلت أتذكر نوعها  تعمل بالقدم لتدويرها واسمها «سنجر» ألمانية المنشأ، رحمها الله ورحم أمهات المسلمين.

وبعد إتمامي العام الخامس من عمري فتحت عيني على عادة تجذب الأطفال وتشدهم، شيء اسمه المصروف اليومي، وهو متفاوت حسب عمر الطفل والحالة الميسورة للعائلة ، فقررت الوالدة أن تخصص لي مبلغاً قدره خمسة فلوس في اليوم، وكنت استيقظ مبكراً واقضي حاجيات كثيرة في المنزل في مساعدة الوالدة.


وربما ألجأ لتملقها كوني الطفل الصغير المدلل آخر العنقود، فقد أحظى بعطفها ليقفز المصروف عشرة فلوس وهي تعادل الكثير من عملتنا اليوم فأطير بها إلى البقال فرحاً، وكان هو الوحيد في محلة سكنانا القريب من المنزل، وهو رجل طاعن في السن مازال اسمه

 محفورا في الذاكرة


 «العم إلياس» رحمه الله. 


وعندما أذهب لدكانه البسيطة بمصروفي الخمسة فلوس غالبا ما أرتد خائباً مكسوراً لأن أجود الحلوى سعرها يفوق ما في يدي، لكنه كان باستطاعتي شراء بعض ما يحلو لي عندما أتحصل على العشرة فلوس وليس دوما يحالفني الحظ ، حتى اتى ذلك اليوم والتصرف الطفولي الطائش الذي لا يدرك حلالا ولا حراما!!

حيث لاحظت أن بعض أطفال الحي الاكبر مني سناً ينتظرون غفوة ذلك العم المسن ويأخذون خلسة من دكانه بعضا من الحلوى غالية الثمن ويضعون نقودهم البخيسةرجانبا ويلوذون بالفرار ..

فأتقنت نفس الطريقة وجربتها ونجحت في اجتيازها وفرحت فرحاً جماً ،دون أن أعلم وانا في تلك السن الصغيرة أن هذا العمل هو سرقة وحرام ولا يرضى به ربنا ، واستمريت على هذا المنوال يومياً واستمرأته زهاء الثلاثة أعوام حتى دخلنا في كتاتيب تعليم القرآن الكريم او ما يسمى (دار الملا) بعمر ثمان  او تسع سنوات وأفهمونا الخطوط العريضة للكبائر والحلال والحرام وعقوبة السارق فندمت على ما فعلت وعاهدت ربي ان لا تمتد يدي بعد اليوم لمال حرام ولله الحمد فقد لازمني هذا التعهد لغاية اليوم وانا كهل  ، فانتهرت بعدها وأقلعت عن تلك العادة الذميمة، ثم عاهدت الله وانا في ذلك السن والعود الطري إن بقيت حياً وبقي ذلك الرجل الطيب أن أسدد له ما بذمتي مع أول راتب أتقاضاه من الحكومة أو أسلمها لورثته إن قضى نحبه ..

وبعد بلوغي  سن الرشد  وتخرجي من الجامعة والتحاقي بالوظيفة ومع أول راتب تقاضيته بقي ذلك العهد والدين عالق في ذهني ورقبتي فأردت الإيفاء بعهدي ووعدي..

ودعوت ربي أن يكون «العم إلياس» على قيد الحياة فرجعت من بغداد وذهبت لذات الحي في مدينة الموصل  مسقط رأسي وقرة عيني وكانت في حينها بسيطة لكنها عامرة بأهلها ومعي راتبي الشهري وكان على ما أتذكر بحدود مائة وعشرين ديناراً فحجزت منه مصروفي الشهري  20 دينارا ووضعت المائة دينار في ظرف اغلقته بإحكام ، وكان في حينها مبلغاً معتبرا لا يكاد يحصل عليه مثل العم الياس من مصلحته لشهور عدة ، فذهبت إلى تلك المحلة القديمة التي غادرناها منذ أمد بعيد (محلة الإمام عون الدين) ، وإذا بي أتفاجأ بنفس الدكان على بساطتها، وذلك الرجل البركة يجلس على كرسيه المتواضع، وأمامه بضعة رفوف قد صف عليها بضاعته التي تغيرت مع تغير الشركات المنتجة، لكنه قد خف سمعه وضعف نظره ونحل جسده، فحمدت الله وعرفته بشق الأنفس بنفسي وبصعوبة بالغة تذكرني، وربما قد تجاوز عقده الثامن ، وخاطبته بصوت عالٍ وهو بالنسبة لحاله همس وكل جملة أعيدها مرات حتى تصل سمعه، فقلت له يا عم أريد أن أبرأ ذمتي أمام الله من ذنب عظيم اقترفته بحقك!!

فقد كنت لسنين مضت عندما كنت  طفلا ألتقط من دكانك ما يحلو لي من الطيبات دون وجه حق، وكنت أتحين غفوتك لأقترف جرمي بملئ جيبي بالحلوى، فجئتك اليوم بمرتبي هذا بين يديك نادما وأرجو منك قبوله والعفو والصفح والمغفرة وأن تدعو الله لي أن يكفر عن ذنبي..!

فما أن وضعت ذلك الظرف بين يديه حتى انتفض متكئاً على عصاه، وقال بصوت حان متكسر لقد جرحتني يا ولدي، وأسمعتني كلاما صعقني وعذبني وآذاني ، وكشفت سراً وخبيئةً بيني وبين ربي ما كان ينبغي لك أن تتكلم بهذا، فقلت له وأنا مندهش: عماه أي صعق وأي سر تتكلم أنت عنه؟ 

قال لي يا ولدي: هل كنت تتوقع أني كنت لا أعلم ولا ادرك ما كنت تقوم به أنت وبعض أيتام المحلة الذين قصرت ذات يدهم ؟

والله إني كنت أصطنع النوم حين أراكم تقبلون عليٌ حتى تأخذوا من دكاني ما يحلو لكم ، فكيف لي أن أقهر يتيماً أو أن أنهر سائلاً وقد نهانا ربنا عن ذلك؟! ألم تسمع قول الله تعالى تباركت أسماؤه «فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر»؟

يا ولدي كما تعلم فأنا رجل فقير، لا أستطيع أن أزاحم الأغنياء في إحسانهم، وأردت بصنيعي هذا أن أكون ككافل اليتيم أو أتشبه بمحسن لضيق ذات اليد، وما فعلت ذلك إلا تقرباً لله، ولعل الله يطلع على عملي وأكون أنا ونبيه كهاتين وأشار بإصبعيه على أبواب الجنة!!!،

يا ولدي ضع دنانيرك في جيبك فأنا في نهاية عمري أطمع بما في يد الرحمن فهو خير لي من دنانيركم، ولا تحرمني من مقعدي في الجنة وترحم على عمك دوما هذا ما ارجوه منك ، وألتمس منك يا ولدي أن تسترني  ولا تقصص ما حدث بيننا ولا تهتك ستري وتفضحني وتنشر خبيئة ضممتها بيني وبين ربي !!!

وأنا في ذهول وصدمة من وقع كلامه،، وأنهى قائلا : الله مطلع على العهد بيننا، فأعطيته العهد والوعد وقبلت رأسه و يديه وانصرفت من دكانه وانا في إرتباك لا يعلم به الا الله لموقفه الإيماني الذي يقترب من طراز السلف الأول وقصص الأولياء والصالحين . وقد احتفظت بالقصة تلك وبالحوار الذي دار بيني وبين ذلك الرجل المبارك الذي انتقل إلى جوار ربه بعد أقل من عام على ذلك اللقاء النوراني ، ثم ما كان مني الا ان سلمت جزءا من ذلك المبلغ لورثته والآخر أنفقته بشراء أضحية ارهقت دمها بأجره..

رحمه الله ورحم رجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه..

واليوم وبعد مرور ما يقارب خمس عقود على تلك القصة أسطرها اليوم لكم  لمقارنة الفارق الهائل في التعامل مع الأطفال والأيتام اليوم الذين شردتهم الحروب وحالهم يبكي الحجر والشجر وأنا أشاهد القسوة التي يتعامل بها الساسة وصد الأغنياء عن الأطفال والايتام والارامل في خيامهم او دورهم الخربة التي مزقتها الحروب والارهاب والتي لا تقي شمسا ولا تمنع زمهيرا بعد ان نهبوا خيراتهم وتسلطوا علىثروات بلادهم

وافقروهم ، فاذكروهم في هذه الايام المباركات ولا تكونوا اقل شأنا  من العم الياس الذي فعل ما في وسعه إيماناً واحساناً وإحتسابا ..

رحمه الله رحمة واسعة


إرسال تعليق

0 تعليقات