الفاسدون في العراق.. أيامهم معدودة

مشاهدات

 



د. ماجد السامرائي




مافيات الفساد في العراق أصبحت على قناعة بأن غطاء الدين الذي وفرّ لها الحماية لسنوات طويلة، لن يستمر إلى ما لا نهاية، فالتستر خلف ما يسمّى بالدولة قد انتهى مفعوله اليوم.


جاهزون لخوض المعركة ضد الفساد

لم يحصل في العالم المعاصر أن امتد العمر بمافيات الفساد طويلا، فمهما تحكمت وسيطرت على الحكم أو امتلكت أعتى الميليشيات، نادرا ما تتحقق متلازمات الفساد والاستبداد والسلطة في وقت واحد من خلال الهيمنة على سلطة الحكم مباشرة، أي أن تكون جميع زعامات النظام السياسي أو غالبيتها، وليست الحكومة وحدها، فاسدة مثلما يحصل في العراق.

لا يقلل من مخاطر الفساد على الشعوب البيانات والتقارير الصادمة حول حجم الفساد في العالم، كأن يعلن الأمين العام للأمم المتحدة عام 2018 أن "تكلفة الفساد تبلغ 2.6 تريليون دولار أي ما يُساوي 5 في المئة من الناتج المحلي العالمي وقيمة الرشاوى في العالم تصل كل عام إلى تريليون دولار". أو أن تضع سنويا منظمة الشفافية الدولية العراق في التسلسل 162. فإعلان التقارير في وادٍ وإمبراطوريات الفساد في وادٍ آخر.

نعم في العالم الديمقراطي، والعراق ليس منه، يؤشر على السياسي الفاسد ويقاد إلى المحاكم إذا ما استغل سلطته في حملاته الانتخابية مثلا. أسماء كبيرة مثل سيلفيو برلسكوني إيطاليا، وجاك شيراك فرنسا، وألبيرتو فوجيموري بيرو، وضعت تحت المحاسبة وبعضها تم سجنه. لكن في العراق للفساد قصة أخرى.

حكام العراق منذ عام 2003 أصيبوا بالصدمة حين وجدوا أنفسهم أمام كنز هائل من الأموال. تبخرت الصور الفردية لكل منهم حين كانوا جياعا، عاش أغلبهم على إعانات بلدية لندن، أو ما تصدق به المحسنون في حارة السيدة زينب بدمشق، أو المخصصات الشحيحة لأجهزة مخابرات نظام الخميني ممزوجة بالمذلة. أغراهم في الدخول إلى عالم النهب والفساد الحاكم الأميركي بول بريمر وبعض عصابات النهب في الجيش الأميركي التي استغلت سهولة تدفق الأموال وفقدان الرقابة عليها.

منذ اللحظات الأولى التي سلّم فيها بريمر السلطة لهؤلاء عام 2004 انكشف الزيف وخداع شعارات الدين والمذهب ممزوجا بالجهل والغربة عن معايير حكم الدولة ومؤسساتها، فبدلا من أن يَصدُق الدعاة مع جمهورهم الشيعي أولا ويصبحوا بناة عهد جديد للبناء، اندفعوا على طريقة اللصوص المتخلفين لتوزيع خزائن الدولة بينهم، بعد أن هدم المحتل بيتها الذي تأسس منذ عام 1921 فاستُثمرت شعارات الديمقراطية والدين كغطاء حيوي لمشروع النهب الشامل، ومن الطبيعي ألا يتم السماح ببناء مؤسسات حكومية إلا إذا خدمت مافيات الفساد الجديدة التي تحولت إلى إمبراطورية.

كان المطلوب، وقد تحقق ما بين عامي 2005 و2014، تسويق غطاء الدين والمذهب للحفاظ على السلطة، وهو ما تم تمريره للجمهور العراقي البسيط وسط وجنوبي العراق من قبل الزعامات الشيعية بعضها جعل من العمامة وتاريخ العوائل الشيعية غطاء حيويا، والبعض الآخر غير المعمم استثمر أكثر أخطاء وخطايا النظام السابق في تحويل مجموعات صغيرة من قادة وأنصار حزب الدعوة إلى أبطال معارضين.

حكام العراق منذ عام 2003 أصيبوا بالصدمة حين وجدوا أنفسهم أمام كنز هائل من الأموال وأغراهم في الدخول إلى عالم النهب والفساد الحاكم الأميركي بول بريمر

استشعر قادة الأحزاب وجيوشهم الفاسدة من عصابات النهب الخطر الشخصي على مصيرهم في حال فقدوا السلطة، لهذا لم يترددوا في تنفيذ برامج قتل واختطاف المعارضين تحت أغطية ما سمّي بالإرهاب للحفاظ على السلطة. لكن دائما ما يصبح الاستبداد أداة لتقصير أعمارهم في السلطة بغض النظر عما يتم ترويجه من قصص الانتخابات، فعندما تحين لحظة الحساب الحاسمة تتبخر هذه المظاهر المزيفة. لقد بدأ الكثير من التابعين من ذوي المصالح النفعية ينفضون عن تلك الزعامات، ولم تعد الحصانة بالمذهب حامية.

لضمان تدفق المال المسروق لأطول فترة من الزمن ودخول النظام الإيراني كعنصر مؤثر ومُستحكِم بالعملية السياسية. واستحدثت أحزابها الولائية معادلة مصيرية جديدة لا تمنع فقط قيام دولة مدنية ديمقراطية جديدة قد تُبعد مفاتيح السرقات الكبيرة، بل إنشاء مؤسسة جديدة باسم الدولة الرديفة وضعت لها عناوين وأسماء رنانة، واستثمرت الظروف المستحدثة لانتشار عصابات الإرهاب في المنطقة، بعد أن كانت صنيعة أميركية لطرد الروس من أفغانستان.

لم تعد الميليشيات المسلحة خادمة لتلك الأحزاب بعد استثمار فتوى الجهاد الكفائي للمرجع الشيعي لطرد العصابات المتطرفة "داعش"، لكي تضمن مشروع التأسيس والإدامة، بل وجدت الفرصة لأن تتحول هي إلى كيان لا يتردد في ترجمة الولاء لخامنئي إلى فعاليات سياسية وعسكرية أخذت تلتهم العملية السياسية بعد انقسام أحزابها وكتلها إلى "مقاومين" و"مستسلمين" للأميركيين.

كان مطلوبا للدولة الجديدة (الميليشيات) التي لم تعد دولة رديفة بالمعنى التقليدي، حيث أصبحت لها أجهزتها المالية والاقتصادية إضافة إلى العسكرية، عدم الاكتفاء بآليات النهب عبر العقود والاتفاقيات المزورة التي أصبحت الأحزاب خبيرة بالتحكم فيها، بل السيطرة على مصادر المال الوفير في المنافذ الحدودية والهيمنة على ما يعرف بمزاد العملة للبنك المركزي ما بين 150 و200 مليون دولار يوميا يتم تهريبها إلى إيران أو الدول التي تتم فيها عمليات غسيل العملة بعقود تجارية وهمية.

دولة الميليشيات الجديدة ارتكبت الخطأ التاريخي الذي وقعت فيه جميع الميليشيات والمافيات في العالم. حين جاهرت بولائها للخارج، وضاعفت من عمليات النهب التي استهدفت مصالح الناس ودخولها في مفردات الفساد اليومية بأدنى المستويات الأخلاقية، التي كشفتها حادثة إلقاء القبض على أخطبوط صالات القمار في بغداد المسمى الحاج حمزة الشمري عام 2019 وهو المقرّب والخادم لمصالح الميليشيات. وأكدت التقارير الصحافية في بغداد أن لقاءات زعامات كبيرة من الميليشيات والأحزاب كانت تتم في الليالي الحمراء في صالات القمار تلك. وكان المقبوض عليه سمسارا لتلك الميليشيات يتقاضى حصته، إلى أن غُضب عليه في النهاية، على عادة المافيات.

الأحزاب الإسلامية الشيعية والميليشيات في أسوأ وأضعف أيامها، صحيح أنها أمضت أكثر من ثمانية عشر عاما في النهب الأسطوري، وهي فترة عصيبة على العراقيين الذين يلامون بأن أكثرهم لم يخط الخطوة الثورية المطلوبة في التصعيد الجماعي لرفض هذه الجماعات الفاسدة وإسقاطها. مع ذلك كانت انتفاضة شباب مدن الوسط والجنوب علامة كبيرة لرفض الطبقة السياسية الفاسدة وميليشياتها. لا تغيّر من هذه الحقيقة حماقة القتل والتغطية على المجرمين التي تمارسها حكومتا عادل عبدالمهدي ومصطفى الكاظمي منذ عام 2018 وإلى حد اليوم.

تعتقد الأحزاب أن احتماءها خلف منظومة الحكم قد يحميها من المساءلة طالما هي تقود تلك الحكومات ولديها ضمانات الفوز في الانتخابات المقبلة، مثلما احتمت لعقد من الزمن بالغطاء الديني والمذهبي الذي انتهى مفعوله. لكن العراق كدولة معترف بها في السياقات الدولية المعروفة يتوقع تعرضها خلال الفترة المقبلة إلى ظروف شديدة الحساسية تتطلب رفع الغطاء عن الفاسدين في الأمثلة التالية:

الأول، التقرير الذي أعده المعهد الدولي البريطاني "تشاتام هاوس"، وهو معهد ذو مكانة دولية مهمة ينشر تقارير موثقة يمكن للدول أن تعتمدها مرجعا في القرارات السياسية، تحدث عن ملف الفساد في العراق وأجرى استقصاء مع وزراء في الحكومات العراقية الحالية، وأشار إلى أن الفساد مشكلة متجذّرة لدى النخبة الحاكمة في البلد.

الأحزاب تعتقد أن احتماءها خلف منظومة الحكم قد يحميها من المساءلة طالما هي تقود تلك الحكومات ولديها ضمانات الفوز في الانتخابات المقبلة، مثلما احتمت لعقد من الزمن بالغطاء الديني والمذهبي الذي انتهى مفعوله

لم يتردّد أحد الوزراء في إخبار المعهد بأنه لا يمتلك سلطة اختيار عقد دون غيره من العقود التي تعرض عليه للتوقيع. حيث يجبره مساعدوه من أصحاب الدرجات الخاصة والتابعين للأحزاب على توقيع العقود التي يختارونها، وإذا خالفهم فإن مكالمات هاتفية ورسائل نصية ستنهال عليه ليَعدُل عن رأيه. ونقل التقرير عن أحد الوزراء قوله "توقيعي هو مجرد بصمة بعد أن تمت الموافقة على العقود سلفا". وعندما يعارض أو يستفسر عن فحوى عقد معين، فإنه يواجه برد فعل رافض من بعض مساعديه من الذين يعتمد عليهم في إدارة الوزارة والمرتبطين بدورهم بأحزاب سياسية كبرى، وقد يتعرّض للتهديد.

الثاني، إعلان الحكومة البريطانية قبل أيام عن خطوة مهمة بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي في تعديلات على قوانين ملاحقة عمليات غسيل الأموال التي جعلت من الأراضي البريطانية ملاذا لها، ستفتح أبواب جهنم على مافيات الفساد العالمية بغض النظر عن جنسياتها، وتم أخيرا فرض عقوبات حظر السفر على 14 شخصا بينهم أربعة عرب من المتورطين في الرشاوى والاحتيال والتلاعب.

هذا يعني أن المتورطين من الفاسدين العراقيين الذين جعلوا من الأراضي البريطانية مأوى لأموالهم المنهوبة سيأتيهم حساب العدالة البريطانية. لا يفرح المسؤولين في البنك المركزي العراقي الخبر الذي تناقلوه حول صدور قرار من وزارة الخزانة البريطانية بعدم إدراج العراق ضمن التصنيف البريطاني للدول ذات المخاطر المرتفعة في غسيل الأموال.

المثال الثالث، تأكيد المركز العالمي للدراسات التنموية أن الواقع المتخبط والفوضى في الاقتصاد العراقي وانتشار الفساد المالي والإداري تحتّم وجود شفافية في حسابات أموال العراق في صندوق تنمية العراق في البنك الفيدرالي الأميركي. ويعد هذا الأمر غاية في الأهمية خاصة مع ضياع مليارات الدولارات من هذه الأموال في فترات سابقة وتضارب التصريحات حول حجم هذه المبالغ والاحتياطيات التي تعتبر ملكا للأجيال القادمة من الشعب العراقي.

لا شك أن مافيات الفساد في العراق أصبحت على قناعة بأن غطاء الدين والمذهب الذي وفرّ لها الحماية لسنوات طويلة تحملها العراقيون، لن يستمر إلى ما لا نهاية. التشبث بالسلطة والتستر خلف ما يسمّى بالدولة قد انتهى مفعولهما اليوم، فالشعب أعطى كلمته بعدم مشروعية استمرار الفاسدين وعدم مشروعية حكمهم رغم قدرتهم بالمال السياسي على تمديد بقائهم.

في العالم الحر رغم ما تشكله الأموال المسروقة لبعض الدول من دعم للمؤسسات البنكية، إلا أن مشروعية حركة الأموال التي تقودها كل من الولايات المتحدة وبريطانيا لن تسمح إلى ما لا نهاية باستمرار القرصنة ومافيات الفساد.

كاتب عراقي


إرسال تعليق

0 تعليقات