حديث العراق / شارع المتنبي

مشاهدات




حسان الحديثي



اصطحبت زوجتي -التي لم ترَ شارع المتنبي من قبل- بسيارة الاجرة الى شارع حيفا فانطلق بنا السائق في الثامنة صباحا وعندما علِم اني ذاهب الى المتنبي اقترح عليّ ان يوصلني لاقرب نقطة منه، ولكني رفضت عرضه الجميل كي لا اخسر متعة عبور دجلة من فوق جسر الشهداء مشياً.

كان صديق لي ينتظرني عند الكتف الكرخي للجسر فانطلقنا مشياً وكان نسيم دجلة ساحراً يداعب الناس بلطف وكان الجسر مليئاً بالشمس والناس والنوارس. 

لا اكتمكم،  انا لا احب النوارس لجرأتها وصلافتها وانا -وان كنت احب بعض الجرأة في الحياة- غير ان الشعرة التي تفصلها عن الصلافة لا يفقهها الاغبياء من البشر ولا تعيها النوارس من الطير، وانا لا احب الصلافة ولا من تخلق بها حتى وان كان هذا المخلوق مجرداً من العقل، ولكن -والحق يقال- اصطفافَها محلقةً باجنحتها البيضاء، والناس تُلقمها قطع الخبز في الهواء، من أعلى الجسر لتخطفه بمناقيرها الصفراء، برشاقة لاعبي الجمناستك ووعي اهل السيرك ثم تذهب بعيداً ليأتي دور سرب ثان ليأخذ نصيبه، منظرٌ لا يُجبِر على الوقوف والمشاهدة فحسب، بل وممارسة القامها بالخبز ايضاً.

كان بائعوا "البسطات" على الجسر ممن افترش الارض او من أصحاب العربات المنتشرة على جانبيه يضعون مكبرات صوت صغيرة مسجل عليها آنفاً ما يودّون بيعه لتعلن عنه بتكرار نفس الاصوات واعادة ذات العبارات فيشعرك جمودُ النبرة الآتية من تلك الالات البائسة بالملل والضجر والانزعاج، اصوات ليس لها القدرة على التلاحم مع الناس والشعور بهم والتغلغل في اعماقهم وجذبهم واقناعهم، انها اصواتٌ مفرغةٌ من الاحساس بمن حولها أو التاثير به، مجردةٌ من طعم الربح  في قلب البائع ومن لذةٌ الشراء بنفس الزبون، متخشبةٌ كأنها آتية من العدم، جوفاءُ كغمغمات صادرة من بئر سحيق أو مغارة بعيدة، فآمنت انها أضعف من أن تأتي بمشتر او تغري زبوناً بل لعلها تنفرهم كما فعلت بي، فلعنتُ حينها التكنلوجيا التي افسدت كل شي وتذكرت بائعي زمان وهم يملأون الفضاء يتغنون ببضاعتهم وحاجاتهم، لقد كان بعضهم رخيمَ الصوت عذبَه حتى قيل أن محمد القبنچي -وهو أشهر قاريء للمقام- قد عرفه الناس من ندائه بصوته الحسن وهو يقف على القبّان فسمي بالقبنچي.

عبرنا الجسر ووصلنا جانب الرصافة ومال بي صاحبي الى مطعمٍ طويل عميق وضيق يجلس صاحبه في مدخله على مكتب قديم وتصطف طاولات صغيرة على جانبينه لينتهي بفرن حجري تسمع ازيزه في أي مكان جلست، يقدم هذا المطعم "الكاهي" وهي اكلة عراقية شهيرة تُعجن خميرتُه وتُصنع فطيرته حين يُخفّفُ العجين ويرقق، ويُلَمُّ على بعضه ويُطبّق، ثم تطلى طبقاته بذائب السمن او بما توفر من الزيت والدهن، ثم تُكَفُّ جوانبُه الاربعة بأشكال مستطيلة ومربعة، ويدفع في ذلك الفرن الحار وقد ابيضت جوانبه بوهج النار، ليخرج الكاهي منتفخ الجوانب والبطن، ذهبي الوجه واللون، ملتهب النهايات والحواف، متكسر الجوانب والأطراف، فتطفأ حرارته بقطرٍ أسمر، مصنوع من خليط الماء السكر، ذي حلاوة جائرة، ولمعةٍ آسرة، ليتوج بلُّبَدٍ قشدةٍ عنيفة، وطبقات قيمرٍ كثيفة، يكون سواءً أمامَها أصحابُ القلوب القوية والضعيفة.

يحملني هذا المزيج الساحر من الطعام محلقاً بي وكأني أطوف فوق بغداد على بساط من الريح متابطاً مصباحاً سحرياً فيه مارد جبار يحقق لي الاماني ويسافر بي عبر الزمن.

كانت الساعة تشير الى التاسعة صباحاً وكان المطعم مكتظاً بالزبائن وشارع الرشيد في هرج ومرج كانه يوم عيد.

لم ننتظر طويلاً حين حضرت الاطباق بلا شوكة ولا ملعقة فهي اكلة شعبية تكتمل لذتها حين تؤكل باليد المجردة ليغطي القطرُ الاصابع ويقطر خليط السمن والسكّر من جنباتها ورؤوسها. 

شارع المتنبي شارع للمشاة فقط مدخله من شارع الرشيد ونهايته شاطيء دجلة يفترش باعة الكتب جانبيه وتمتليء ازقتة وحاراته القديمة بالمكتبات ودور النشر والمطابع ويتفرع منه سوق السراي وهو سوق الوراقين وتجمّع الخطاطين نشأ ايام الخلافة العباسية الاولى وانتهى في شهر سبتمبر من عام 1258 وهو تاريخ غزو المغول لبغداد واحراقها والقاء كتبها ومخطوطاتها في نهر دجلة حين صار الماء بلون الحبر ثم عاد السوق بعدها الى الحياة ببضع عشرات من السنوات ليحيا من جديد، وما من مدينة راجت بها تجارة الورق والحبر والاقلام وكثرت فيها حرفة التنضيد والتجليد الا وكانت مدينة آهلة بالكُتّاب من اهل العلم والادب والفن والترجمة فلكل صناعة تجارة وصناعةُ الكتابة لهولاء تحتاج تجارة اولئك.

كانت اخر زيارة لي لهذا الشارع القديم صيف عام 1988 ذهبت اليه ماشياً من شارع الجمهورية، سالكاً بعض الأزقِة المؤديِة إلى شارع الرشيد ومنها إلى المتنبي، تجولت في ذلك اليوم القائظ بين مكتباته باحثاً عن ديوان الاخطل الصغير، كانت ضالتي سهلة فلم يكنْ قد إنتابني التعب حين وجدتها، لا اذكر كم دفعت ثمناً لشرائه ولكني اذكر جيداً أني بحثت فيه فور اقتنائيه عن قصيدة المسلول، القصيدة التي يملؤها العناء ليس في معانيها فحسب بل في قراءتها أيضاً، لم استطعِ ألانتظار ساعتها فقراتها في طريق عودتي ولعلي حفظت يومها جُلَّ أبياتها، ليس لفطنةٍ مني بل لرقة طبعٍ وجمال فيها.

تأثرت بالمسلول وعشتُ لحظاتِ بؤسهِ وحرمانهِ وأحسستُ بدبيبِ البردِ وهو يتلطفُ الى مفاصلهِ، آلمتني كبدي حين قالت له صاحبته: ضعْ رأسكَ الواهي على كَبدي

واسودتْ في عينيَّ أشعة الشرق حين قرأت ترجمة بشارة الخوري للغة البؤسِ وتصويره لمعاني اليأسِ بقوله: أنا لستُ منْ يحيا لفجرِ غدِ. 

لا اكتمكم انني حين تمشيت في ازقة المتنبي والرشيد ورايت مبانيها واروقتها متآكلة آيلة للسقوط ورأيت الجلال والجمال يغيبهما الترك والإغفال، احسست ذات الاحساس حين قرأت قصيدة المسلول قبل ما يزيد على ثلاثة عقود، لقد أوجعني قلبي وانا انظر اليهما وتفطرت كبدي الماً وحسرة عليهما، ولم تستطع اوتار الأعواد المتسربة من زواياه وأركانه ولا اصوات المنشدين من وراء اعمدته وحيطانه أن تخفف الاحساس بالوجع والأسى.

غير ان لقاء بعض الاصدقاء والاحبة والجلوس في مقهى الشاهبندر خفف وطأة العنت وشدة اللوعة

إرسال تعليق

0 تعليقات