أنينُ الجِسرِ: وفراكُهُم بَجَّانِي

مشاهدات




علي الجنابي


(كُتِبَ النَصُّ في رمضان في مقهى الشاهبندر على ضِفافِ دجلة).

إِستَرَقَ سَمعِي أنينَ الجِسرِ، إذ هو يَتَغَمغَمُ خُفيَةً ويُتمتمُ :

إِيِهٍ بَغدادَ يَا دَارةَ الرَّشيدِ!

صَومُ العَوَامِ شَهرٌ كُلَّ عَامٍ مُتَوَاكِلٌ مُتَنَقِّبٌ, وصَومُكِ سَبعَةَ عَشَرَ عَاماً متَوَاصِلٌ مُتَعَقِّبٌ!

عُذرَاً بغدادَ, إِذ أُنَاجِيكِ وإذ يَغشَاني غَمٌّ شَارِدٌ مُتَرَقِّبٌ !

(أَمَّن لِي بِبَغدادَ أبكِيها وَتَبكِيني)؟

وَلَئِن كَانَ لِلأفئِدةِ أن تَهوى مَدَائِنَها, فأنَّى لِفؤادي إرتِقاءٌ في هواها مُتَيَّمٌ مُتَهَيِّبُ !

أَمَّن يُفتِينِي بَرَسمٍ كَرَسمِ بغدادَ مِن لُؤلُؤِ البَحرِ إنبَجَسَ وَجهُها فَتَجَسَّم,

فَعَلا ثمّ علا, ثمّ علا، 

فتجلّى في بأسِ التّبَرُّمِ، فَعَرَشَ هناك فَنَجَم!

أَمَّن يَأتينِي بإسمٍ  كَإسمِ بَغدادَ مِن بُؤبُؤِ الزَهرِ أقتَبَسَ حَرفُها فَتَبَسَّم , 

فدنا, ثمّ دنا, ثمّ دنا،

فَتَدَلى في كأسِ التّبَرعم، ففرشَ هناك وَ وَشَم !

(قَد عَشَّشَ الحُزنُ -بَغدادَ- حَتى في رَوَازيني )!

مَا بَالُ جَبينُكِ يَتَصَببُ عَنبَراً يَا شَمعةَ الأعيَادِ !

أَفَعَليلَةٌ أنت! مَابَرحتِ تَسخَرينَ منَ عِلَلٍ وكُلِّ ضَمادِ ! 

فَإن غَزاكِ دَاءٌ كَفَرتِ بهِ بِلَمزٍ وإلحادِ !

أَفهُوَ ضِغثٌ مَرَّ بغَفوَةٍ ؟ كيفَ..

وأنت ألشاهدٌ على النّجمِ والأشهَادِ ؟

حَدَّثيني بَغدادَ ولا تذريني أغمغمُ،

بعداً يابغدادَ للصمتِ والهجر والإبعاد , 

فَثَنايايَ لا تَتَبَسَّمُ إلّا بكِ ومِنكِ ومَعكِ وإليكِ يا بَهاء نَسبي وأجدادِي .

افغاضبةٌ أنت من خنوعي يا سَماءَ عِزَّتي وأمجَادِي, وكبرياءَ والدي وأولادِي, ويا رِداءَ الفخرِ للأحفادِ.

إنهَضي بَغدادَ..

إنهَضي بَأسَاً يا مَربَضَ الآسَادِ بَينَ الأممِ,

وَمَقبضَ الأوتَادِ بَينَ الخِيَمِ .

إنهَضي فَادحَضي رِجسَاً, يَا سُؤدَدُ الأجنادِ فَوقَ الحِمَمِ .

شُدِّي عَلى الأحزَانِ وَتَبَسَمي, يَا غَدير الدَّوْحِ والسَّوادِ ,

مُدِّي عَلى الأفنَانِ  وتَنَسَمي, يَاهَديرَ الرَّوْحِ وَالأجسَادِ ,

شُدِّي ومُدِّي فمَا أنتِ بِرَقمٍ نُكرٍعَابِرٍ, بَل..

أنتَ مَن صَكَّ الرَّقمَ للأفرَادِ ودكَّ العظمَ للأسيَادِ.

كيفَ الصَمتُ! 

وسَمتُكِ بغدادَ نابِضٌ بِتَغرِيدٍ وإنشَادِ, وَنَحتَكِ رَابِضٌ عَلى قِمَمٍ وَأطوَادِ, وَنَعتُكِ رَافِضٌ كُلَّ صَمتٍ وَحِيادِ!

إنَّ صَمتَكِ يابغدادَ مُوجِعٌ  لِخَافِقِي وَكُلِّ الجَوارحِ تُبَّعٌ لهُ بانقيادِ! 

مُوجِعٌ حَتى لِمَن يَمَّمَ رُمحَهُ صَوبَ نحرِكِ وكانَ وإياكِ في تَضَادِ !

ذاكَ صَمتٌ مُكَمِّمٌ لِأنفاسِ الأجنادِ وَأقبَاسِ الرَّشادِ.

كيفَ الصَمتُ!

كيفَ أجيبُ أَهلُ الضَّادِ ومَا انفَكُّوا يَتَحَسَّسُونَ أَنباءَكِ يَا هُداهُمُ وَهدىَ العِبادِ والبِلادِ ,ويا شَذاهم وشذا المَناقِبِ للضَادِ وندى المُعاقِبُ للضَادِ . 

تَفَوَّهي وأنت المُهَلِلُ للعاكِفِ والمَضيفُ للبَادي.

ولا تَتَأوَّهي وأنت ضادُ الضادِ لِكُلِّ ضادِ .

كفى صمتاً يابَيتَ الرَّشيدِ ويا قَارِبَ السّندبادِ .


ثمَّ أطبَقَ أنينُ الجِسرِ في صَمتٍ كَظيم, فَتُهتُ أنا في  صَحارى أنينُ صمتَيهما بغداد والجسر, وبَدَأتُ أتَحَسَّسَ سبيلاً لِأنجَادِي:

لعلَّه عارِضُ رِيحٍ صَرٍّ جَاءَ بها زُرّاعُو ضوضاء وإلحادِ، 

وأذنابٌ  مِن خَلفِهم غوغاء وأوغَادِ، 

لا رَوْمَ لهمُ إلا أَحرَاقَ الخيمةِ وصالونها والعمادِ، 

ولا عَوْمَ لهمُ إلا في إغراقَ النّخلةِ و عرجونها والعِنادِ. 

وقد آنَ أوَانَ فَتحِ البابِ وصَدِّها بوِحدةٍ وإتِحَادِ..

فَذي جنّات (التَّحريرُ) قدَحت: نحنُ الأصابعُ على الزنادِ،

 وسيفٌ كارِهُ الأغمادِ، فلا عَزاءَ، وأُفٍّ لمراسمَ من حداد.

وذي وَنّات (سوقُ الصّفافيرِ) جنَحَت لِصُنعِ مَفاتِحَ القيدِ والأصفادِ،

وذي رَنّات (مقهى عزّاويّ) صدَحت بِملقعةِ الشّاي، لتُضَيّفَ أكارِمَ خِلّانٍ ورّوادِ،

وذي (ساحة الميدانُ) منَحَت مُستَبشِرَةً (سوقَ السّرَايَ) قِلادَةَ الحَرفِ والمِدادِ.

(شَارعُ الرَّشِيدِ) وخِلُّهُ (السَّعدَون) يتَهامَسا أمرهم بينهم عندَ مَجمَع بَحرَيهِما (نَصبُ الحُريَّةِ) : نحنُ المُنتُدى للوِدٍّ ونحنُ المُفتَدى للجَهادِ.

وذاكَ هنالكا (حَجي مُقدَادَ) ينَادي عُكازَهُ المُزَخرَف:

(إنّي لَفي شَوقٍ لخُطوةٍ رُوَيدَاً، رُوَيدَاً على "الكورنيش"، مُتَأنِقاً بسِدارتي الحَنونِ السَّوداءِ، ورفيقتي عُكّازتي من أنفسِ الأعواد) .

وذاك "جَمُّولِي" صغيرُ الحيِّ الفتى المُلَقَّب (قِمبيزَ) :

(إنّي لَفي تَوقٍ لِسَطوَةٍ على صَدرِ مَقعَدِ طابقٍ علوِيّ لِحافلتي الميمونِ الحمراء, وأنا على أهبَةِ الإستِعدادِ).

وتلكَ (أُم  جَمُّولي) بشيرُ الضيّ أراها مُزَغرِدَةً :

(إنّي لَفي جَذوَةٍ لِسُوقِ حَيّنا ذي البَرَكاتِ والإمدادِ، وسأعودُ مٍنهُ تَمايِلاً بأنفاسٍ مُجتَرَّةٍ ولاهِثَةٍ، وخُدُودٍ مُحمَرَّةٍ وبَاعِثةٍ، وببسماتٍ وإسعادِ،

وسأَقبِضُ بِشِمالي بِحقيبَتي على رَأسي، وبِيَميني على عباءتي تُشبِهُ المِنطادِ ).

 أنَّكِ بَغدادَ في ذَرى العَافيَةِ؟

مَا كَذَبتُ أنا ؟

ومَا هي بشِيمَةٍ ليَ!

فَهَيّا بغدادَ لنَسمَعَ فَنَستَمتِعَ بِنَبَراتِ صَوتِكِ، مُؤَطَّرَةً بألحانِ زِريَاب، ومُعَطَّرَةً بِألوانِ الأنساب، وهي تَأمُرُ(عَزاويّ) بِصَحنِ (كاهيّ و قَيمر)، وليَعزِفَ بِمِلعَقَةِ الاستكانِ نَغَم "البستنگار الشَّجيِّ" ياحلو يابو السدارة، ولتَتَهادى حَبَّاتُ المَسابِحِ هُوَيناً هُوَينا، حَبَّةً على حَبَّةٍ، وَلِيَصدَحَ المَقهى عَالياً بمقام البيات:

"وفراكُهُم بَجَّانِي جالمَاطِليَه بالضِّلع..

بِيك أشتِرَك دَلّالِي  يكلُون حُبِّي زَعلان..

آآآآه..

يا كَهوِتَك عَزاوي بِيها المدَلَل زَعلان.

آه.. وإِيهٍ بغداد!

 أَوَمِن رَحلِ إستِبدادٍ خَرَجتِ، إلى وَحلِ أَوغَادٍ وَلَجتِ!

 فَدَتكِ عَينُ العَينِ وَفَلَذَةُ الأَكبَادِ.

إرسال تعليق

0 تعليقات