حكم قاضية.. في قراءات ماضية

مشاهدات



د. سحر أحمد علي


براءة نبع الحنان والأمان علّمَتْها حبّ النّاس، حبّ المظلوم والتّعاطف معه،

براءة نبع التّواضع والصّدق في زمن التكبّر والفسق جعلتها تكسر عجرفتها حتّى مع المُتعجرفين، براءة نبع العطاء وعفويّة العطاء في زمن الشّح والتصنّع علّمتها أنْ تكرم نفسها بثقافةٍ ولباقةٍ اجتماعيّةٍ قبل أنْ تكون ثقافتها جامعيّة وأكاديميّة. . 

استمدّت من دعاء والدتها إضافةً إلى اجتهادها عبْر سنوات الدّراسة بنجاح، فأتمّت تلك المرحلة وتفوّقت، وأصبح لها مقعدٌ رسميٌّ تنادي من خلاله بحقوق النّاس المسلوبة والمشروعة. 

انتهى عمر الكهولة مع جسدٍ تعبٍ بال في عقل مازال يؤكّد نصائح ووصايا زمانها الأصيل الجميل. 

**

انحنَتْ صديقتي القاضيَة -أمام جمعٍ كبيرٍ- على قبر والدتِها مجهشةً بالبكاء، وأيّ بكاء ذلك الذي أثاره -وبقهرٍ شديدٍ واضحٍ- دموعُ بعض الممثّلين والمتملّقين والمترائين، بدوا لها وكأنّهم عواميد كهرباء تشعل شرارة وتقطع أسلاكاً!! 

وأيّ كلمات معزّية وعناق، وأيّ تمثيل ونفاق، اختلط الحزن بقلبها لم تعد تميّز بين ألم الفراق وما رأته واقعاً جعلها تفيض دموعاً، فتغصّ بالاختناق، وراحت تمسك يدي بشدّة ثمّ توجّهت بحديثها إليّ قائلةً وهي تسرّ بهمسِ مَا بقلبِها من جروحٍ -إنّها ظاهرة استفحلت في مواقف يتحيّنها معظم النّاس في واجبات العزاء، ويمثّلون دورهم هكذا بأكملِ وجهٍ! 

سألتني وهي تتحدّث لي: كيف بعد غيابهم الطويل أثناء مرض والدتي؟ الآن حتّى ذكروني!! لكأنّي أرى ما في قلوبهم فمنهم المُبارك ومنهم المُعزّي!!

لو تقدّم الزّمن قليلاً، ورجعت إلى حياتي العامّة ودوري العادي، ترى هل سأرى هؤلاء الدّامعين كما أراهم الآن؟!

أجبتها بتحسّرٍ: اسألي مجرّباً ولا تسألي حكيماً: بالتأكيد لا!!

وياما أكتر أحبابي يوم كرمي دبس، وياما أقلّ صحابي يوم كرمي يبس!! 

**

لا تعولي كثيراً -أستاذة- على هذه المواقف، فالمجتمع المُصاب بهذا الدّاء لابدّ أنْ يكون له دواء، حتّى لو طال زمن العلاج.. 

احترامك وتواضعك ونبلك ربّما يعلم الكثير، وتغاضيك عن هذه الآنيّات المَرَضيّة وخاصّة عندما سيتألّمون كألمك، ومن لم يتألّم لا يتعلّم. . 

هذا المجتمع نفسه الذي تصفينه سيعاني الكثيرون منه نفس معاناتك، وتمنحهم المواقف دروساً اجتماعيّة تأديبيّة لأنّها ستعود حتماً عليهم، كما تعامل النّاس يعاملونك بالعمل والفعل نفسه، ولكن هنيئاً لمن يحفظ خطّ الرجوع ليحافظ على الأقل على كرام النّاس، وبالتّالي على الكرامة الحقيقيّة!! 

إنّها حال الدّنيا، فالأصيل يبقى أصيلًا ولا تغيّره السنون ولا الظروف، والكرسيّ المصنوع من حديدٍ سيبقى اسمه حديداً حتى لو صدِئَ. . 

ونبعُ الحنان. . الصدق. . والعطاء. . نبعٌ مستحيل الجفاف، وسيستمرّ باستمرار وجود الإنسان في الإنسان. .

إرسال تعليق

0 تعليقات