شخوص الشاعر قاسم العابدي طاقات لاتنفد 

مشاهدات



الناقد عبدالباري المالكي 



رائعة ... تلك الشخوص التي يتحدث عنها شاعرنا قاسم العابدي فهي أحياناٌ لتعيش تناقضات الحياة من لذة وألم , ووجع وسعادة, وهي شخوص على قدر كبير من الدقة في التصوير الشعري وهي في الوقت الذي نراها مليئة بالرغبة في الحياة إلا انها تعيش حالة انتظار لأمل مطلوب وحلم محتضر , 


في طبيعته أن تلك الشخوص التي تمثله الروحية والنفسية تعيش في طاقاته الذاتية لا تنفد .


وان طاقاته تلك مستمدة من كرامة لا يمكن التفاوض فيها فضلاٌ عن التنازل عنها .


لأننا منذ رتّشنا نبوءتنا 


بين المسامير ألفى 


وحينا المطرُ 


نمشي ونسقط , نذوي مثل زنبقة 


كأن فينا رحاب الحلم 


تحتضرُ


ان نبوءاته تلك هي من نقاط الايجاب لديه رغم البؤس الذي يشوب تلك النبوءات اذ تتلاشى أحلامه أمام صور ليست إلا واقعية كما يراها هو , فتلك الصور انما هي ذاته التي تتعرض الى مصير مشروط يستتر في شموخ نخله المتوقد , حتى يكشف له ذلك المصير ما قد خبأه له القدر .



ويتضح ذلك المصير أمام مرآة طفولته المعدمة حتى من بساطتها تلك الطفولة التي راح يبحث عنها مذ غادرته وهو في أثوابها , لعلها تمنحه ضحكة لا تشوبها من الواقع مرارةٌ ما , ولا يتغلغل في داخله صدرٌ مطعون , فذلكم هو المقياس العام الذي جبل عليه شاعرنا والتزم به صدقاٌ أمام واقع حتمي رآه في تلك النبوءات فانبثقت منه أحزان تناثرت بها السور النابضة وتهادت أمام ضفته المقفرة لعمرٍ عاشه بدرجات متفاوتة من التصحر وانعدام الهوية والاعتبار الذاتي ,  وعاشت سنيّ ذلك العمر وهو خالي من الوفاض من كل شيء إلا من الكرامة والموهبة التي تعيش فيه بجوهرها واصالتها من خلال وعي ثقافي وتجربة إنسانية تنتميان له .


ان ذات شاعرنا العابدي هي موهبته , وهذه الموهبة متنوعة وأصيلة وولودة دائماٌ تحركه الى كل الاتجاهات وتأخذ به الى أدب يتميز بملاحظة النواقص والسلبيات في مجتمعه فيناضل من أجل إبعاد تلك السلبيات واستبدالها بما يجب , وتلك مهمة الموهبة التي تعمل على تعميق شاعريته وتطوير شخصيته فهي تحتّم عليه أن يصارع تلك النواقص لتوكيد ذاته ومصيره حين يكوّنان العلاقة المميزة للفن الأصيل بينه وبين القارئ , فتلك العلاقة لا تلبث أن تكون انعكاساً مباشراً للحقيقة التي تصور سيرة حياتية لشاعرنا من حسرة همّت به وألفت ما بشفتيه من ابتسامة تولد فتكون تلك الحسرة قد طعنت خاصرته , فلم يعد قادراً على تعزيز عاطفته أمام جراح الرحيل وصفحات الليل ونزف الحديث في مساحة من الشريان لتجعله قوة هامدة عند نبض قد بعثره وضوء قد داعبه وخاطرة قد ذيعت في كل زاوية من زوايا عالمه .


ان إماطة اللثام عن الصور الفلسفية في قصائده لا تعني أن القراء كانوا قد اغمضوا أعينهم عن محاسنها وانما تعني إزاحة الستار عن سبكٍ أودعه ووطأة قلم شرعت في نفسهِ , كانت وفيّةً لغرضها قادرةً على أن تتحول الى سلاح تخشاه قوى الظلام وتسيطر على الميول في الاختيار , فشاعرنا هو سيد نفسه , وقلمه سر سعادته يجعل من ذاته عملاً فنياً وخاطرة مصورة لا تفسدها فلسفتنا بل يزيدها جمالاً وتجعل من قصائده قيمة عالية توفيه بياناً وتتجانس بأجزائها لحناً وموسيقى , واذا كان كذلك فلا عجب أن نرى قصائده بذلك الطراز الجميل وذلك المعنى المقنع الذي يجعل قراءه مقتنعين بفكرة الخلاص التي يؤمن بها , إذ يقول :-


سأصفّ في جسد الشتاء براعمي 


وأصعلك الأضلاع 


قبل البسملة 


وهو مؤمن بنتاجاته الفنية التي تفسر ما حوله ليكون هذا التفسير أساساً لتغيير العالم الذي تربطه به تلك الفلسفة الشعرية والتي نجدها جلية في أغلب قصائده والتي يتميز بها شاعرنا , تلك الفلسفة القائمة على موازاة عالم جديد هو عالم واقع وحاسم في آن واحد وهو يمثل تجسيداً للمثل العليا التي يؤمن بها ويمثل حقيقة يخلص لها ورؤية جمالية لا تنسلخ عن واقعه ولا تقتصر على التعقيد والتناقضات فيه ولا تتحدد بالحلول الأخيرة فهو يقف دائماً أمام مهمة البحث والاختيار , لأنه لا يرى حداً فاصلاً بين الفن والفلسفة الشعرية , بل يراها متحركة دائماً , لأن الفن والفلسفة يقودان الى الحقيقة دائماً وان تباينت طرقهما واختلفت وسائل تعابيرهما .


إن المنطق الذي يعيش به شاعرنا ليس عبارة عن كلمات جوفاء أو تعابير مزوّقة كما هو الحال عند اولئك اللصوص الذين تلقفوا ارضه واستذأبوا أضلاعه .


ان المنطق عند شاعرنا لا يعود الى زمن معلوم ولا بلد معين وانما منطقه هو ما كان يكمن خارج الزمان والمكان وينسجم مع الطبيعة الإنسانية التي تجعل منه معلماً يسبر أغوار المحتوى الإنساني الذي يوصله الى الهدف , متخطياً كل العقبات لأُطُرها محتجاً على كل القوانين الحتمية التي لا توصله الى الهدف وطارحاً كل الاحتمالات الواحد بعد الاخر.


ولأنني المنفي قبل نبوءتي


سأوجه الدنيا كقطب 


البوصلة 



إنه يأخذ على اولئك اللصوص فسادهم واستبدادهم ويأخذون عليه حريته وجرأته التي يسمونها تمرداً , وهو بعد هذا وذاك مازال منطوياً على عومه المضطرم في صدره ليبارح الهدوء ويساهر الصباح الشاحب ويتخذ من ضوئه الباهت ملامح خياله الذي هو روح وجسد .


انه يفسّر نفسه بالمعجزة , وبالجديد لكل جيل وبالمعين الذي لا ينضب. 


فهو يرى روحه قريبة من كل الاشياء وسائرة في مقدمة الأجيال , تلك المعجزة التي تكمن في أنه يعيش مطالب أهله وابناء وطنه ومصالح حياتهم , والتي تكمن في أن الحقيقة غير قابلة للجدال لأنها ذاتية لا تكرر .

إرسال تعليق

0 تعليقات