في وداع سنة عراقية أخرى

مشاهدات



إبراهيم الزبيدي


هناك عوامل فاعلة قاهرة جعلت السنة العراقية الموشكة على الرحيل تعيسة. وأول هذه العوامل الثابتة أن إيران ممسكة بكل مفاصل الدولة، صغيرها قبل كبيرها، لأسبابها وضروراتها العسكرية والأمنية والاقتصادية والسياسية والدينية والطائفية والقومية، وخروجها منه، أو حتى ضعف قبضتها عليه، إيذانا بنقل حروب أعدائها إلى حدودها، وربما إلى داخلها، ناهيك عن أنه سيمنعها من المرور الحر إلى سوريا ولبنان.

ومن أجل استمرار وجودها فقد عمدت إلى قسمة الشعب العراقي إلى مكونات متعاكسة، متشاكسة، والدولة العراقية إلى مراكز قوى متخالفة، والجيش العراقي إلى كيان غير موحد وغير منسجم وغير ملتزم بالدفاع عن حدود الوطن وسيادته. فقد جعلته، في أغلبه، فصائل مسلحة ميليشياوية ضُمت إليه، ثم بقي ولاؤها لرؤساء تلك الفصائل، يوازيه الحشد الشعبي الموضوع دستوريا وقانونيا تحت إمرة القائد العام للقوات المسلحة، ولكنه، في واقعه، المستقل عنه عمليا وواقعيا، بحيث لا تستطيع الدولة العراقية الاحتفاظ بسجين واحد من أعضائه في سجونها، أيا كانت الجريمة التي ارتكبها.

حتى حين يتطاول قائد فصيل من فصائل ذلك الحشد على رئيس وزراء العراق وقائد عام قواته المسلحة ويقول له “الوقت مناسب لقطع أذنيه كما تقطع آذان الماعز”، يلجأ الرئيس، لكي يسترد ماء وجهه بمعاقبة هذا المسيء، إلى أن يوفد أحد الولائيين المقربين من قيادة الحرس الثوري الإيراني ليلتمس السماح له بسجن هذا المتطاول، ولو لأيام، حفاظا على هيبة الحكومة، وعلى مصلحة إيران ذاتها، وعلى أمن حشدها في آخر المطاف.

نعم، لقد كانت بليّة كورونا واحدة من الكوارث التي أصابت العراقيين في مقتل، دون شك.

ولكن برغم أن شعوب الدنيا كلها تضررت، مثلَهم، بهذه الجائحة في الغرب والشرق إلا أن حكوماتها الغنية والفقيرة، معا، سارعت إلى نجدة مواطنها الذي خسر حبيبا، أو فقد وظيفة، أو تضرر جزءٌ من دخله، فمنحته معونات مالية عاجلة خففت عليه وطأة الجائحة، ثم جندت كل ما تيسر لها من قوة ووسائل للحد من أضرار هذا الفايروس إلى أقصى الحدود الممكنة.

أما في العراق فقد كانت الجائحة أقلَّ الكوارث التي أنقضت بها السنةُ الراحلة ظهر الشعب العراقي المسكين.

فقد أفاق العراقيون في مطلعها، وبالتحديد في 3 يناير، على خبر قتل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، برفقة نائب رئيس الحشد الشعبي، أبومهدي المهندس، وانتثار أشلائهما على أرض مطار العاصمة.

ورغم فداحة الحدث فقد أمل عراقيون كثيرون بأن تكون هذه القارعة لنظام الولي الفقيه جرَّةَ أذن نافعة تجعله يفيق من سباته، فيصبح أقل دموية وإرهابا واختلاسا في العراق. ولكنها، كما يبدو، أشعلت جنونه إلى أبعد حد، وأمر وكلاءه العراقيين بالاختباء في الظلام وبين الأحراش والخرائب المنسية والانتقام من مبنى سفارة الولايات المتحدة وبعض معسكراتها بصواريخ خائبة تسقط على منازل العراقيين الآمنين فتقتل أطفالهم، وتحرق منازلهم، ولا يخافون ولا يستحون.

وبعد أيام من مقتل سليماني والمهندس أعلن المتحدث باسم القيادة المركزية الأميركية الكابتن بيل أوربان أن 11 جنديا أميركيا على الأقل أصيبوا في هجوم إيراني على قاعدة عين الأسد في العراق.


بليّة كورونا واحدة من الكوارث التي أصابت العراقيين في مقتل

وقد أفضت هذه الهيمنة الإيرانية والحشدية المتصاعدة، وكورونا والفساد والفشل الحكومي إلى مآزق اقتصادية خانقة. وحين طفح كيل العراقيين، مثلما طفح في السنة التي قبلها، وخرج بعضُهم متظاهرين مطالبين بشيء من حياة البشر، تجمّع عليهم الملثمون (المجاهدون) بالسكاكين والهراوات والرصاص الحي، في بغداد والبصرة والناصرية والديوانية والحلة والنجف، واستشهد كثيرون، واعتقل كثيرون، وحكومة عادل عبدالمهدي ترى وتسمع وتلقي بالمسؤولية على الطرف الثالث المجهول.

وحين وجدت المرجعية النجفية أن الدائرة تضيق عليها وعلى إيران وعلى الحشد الشعبي، معا، أمرت عادل عبدالمهدي بالاستقالة، مع ضمان عدم محاسبته عن أي جريمة قام بارتكابها، ومنها وأولها قتلُ المتظاهرين.

وفي هذه الظروف العصيبة ارتأت المرجعية وإيران والولايات المتحدة تكليف رئيس المخابرات مصطفى الكاظمي بتشكيل الحكومة.

وتفاءل عراقيون كثيرون بمقدمه، ولكنه خيب آمالهم، حتى وهو في أول أيام عهده الجديد، حين التقى بسلفه المطرود عادل عبدالمهدي فامتدح إنجازاته “العظيمة”، وبرّأه من دم الشهداء، واتهم الشعب العراقي بالعقوق.

وفي 7 يوليو اغتال مسلحون من فصيل تابع للحشد الشعبي الشهيد هشام الهاشمي أمام منزله في بغداد فوعد الكاظمي بملاحقة القتلة، وبأسرع ما يمكن، ولكنه ما وفى.

ومنذ تسلمه مهام رئاسة الوزراء وحتى كتابة هذه المقالة لم يتوقف عن أن يعد بشيء ثم يفعل ما يبطله. يشتم السلاح المنفلت ثم يزور مقر السلاح المنفلت، ويرتدي ثيابه ويعده بقطع اليد التي تمتد إليه بسوء، ويهاجم الفاسدين ويقرر استعادة أموال الدولة التي سرقوها ثم يواظب على زيارة كبارهم لتبادل الرأي والمشورة، ولا يمس أموالهم بسوء، بل يرضخ لوزير ماليته، ويأمر بخفض قيمة الدينار، ويقصم ظهور الملايين.

وفي يوليو قام الكاظمي بزيارة لطهران هي الأولى له إلى الخارج، ثم وقف بين يدي المرشد الإيراني علي خامنئي حافيَ القدمين، مستمعا بخشوع إلى توجيهاته المُرّة التي لها طعم الأوامر.

فقد حذره من أن “الوجود الأميركي على حدود الجمهورية الإسلامية يتسبب بانفلات أمني”.

وقال له “لقد قتلوا ضيفكم في بيتكم واعترفوا بذلك بوقاحة”. إن إيران “لن تنسى أبدا هذا، وستوجه، بالتأكيد ضربة انتقامية للأميركيين”.

وكان الكاظمي قبل زيارته لإيران بأسبوع أمر باعتقال 14 عنصرا تابعا لحزب الله العراقي بعد أن أطلقوا عدة صواريخ على السفارة الأميركية، ولكن الحزب أعلن بعد أربعة أيام فقط عن الإفراج عن “مقاتليه لعدم ثبوت الأدلة”.

وفي الشمال العراقي لم تتوقف تركيا عن احتلال أجزاء من الدولة العراقية، ولا عن قصف القرى والمدن، ثم يزورها ويعلن عن شكره الفائق لرئيسها “الصديق المشترك للعراق وتركيا”.

وعن العام الجديد لا يحتاج الأمر إلى عالم فلكي لكي يتنبأ للعراقيين بأن عامهم الجديد لن يكون بأفضل من الذي مرّ، وربما الأكثر جوعا وفوضى وفسادا، إلا بأن تخرج منه الشقيقة إيران. ولكن القوة الوحيدة القادرة على إخراجها هي الولايات المتحدة، والولايات المتحدة جو غير الولايات المتحدة دونالد، ولله في خلقه شؤون.

 

إرسال تعليق

0 تعليقات