سبب ازمة الرواتب ---- احذروا ثورة الجياع؟!

مشاهدات




نهاد الحديثي


بلا شك ان النظام السياسي الحالي اعتمد على تفريغ العراق من الأموال، إذ ساهم في تعطيل الصناعة والزراعة والصحة والتعليم، فالأموال التي تدفعها الدولة كرواتب تذهب لإحياء اقتصادات الدول المجاورة، لأن العراق يأكل ويلبس ويستهلك ما تنتجه هذه الاخيرة. وحجم استيرادات العراق من السلع يبلغ سنوياً أكثر من 35 مليار دولار (استيرادات القطاع الخاص)، بالإضافة إلى استيرادات الحكومة العراقية التي تبلغ سنوياً أكثر من 3 مليارات دولار، وهو رقم كبير جداً. ولا يمكن لاقتصاد يبلغ ناتجه الإجمالي 197 مليار دولار، الاستمرار بهذه السياسة، لاسيما وأن حكام هذا النظام وضعوا عراقيل امام أي فرصة لإحياء الصناعة أو الزراعة من قبل الدولة أو القطاع الخاص، لأنه ليس من مصلحتهم الشخصية خسارة الأرباح من البضائع الرديئة التي يستوردها العراق. الغريب في هذا كلّه هو أن العاملين في الصناعة العراقية اليوم (وهي معطلة تماماً) يبلغون 500 ألف موظف، مسجلون في المصانع الحكومية، وهم عاطلون عن العمل لأن مصانعهم متوقّفة عن الإنتاج. وبينما تقترض الدولة رواتبهم من المصارف الحكومية، فإنها لم تكلف نفسها بوضع استراتيجية تستثمرهم في تطوير الصناعة - لم يكتفِ نظام الأحزاب الحاكمة اليوم بتهديم الصناعة والزراعة وغيرها، وانما بدأ مؤخراً بتضييق الخناق على الطبقات الفقيرة والمسحوقة، وذلك عبر حملات إزالة البسطات وعدم إيجاد بديل لها لتدّر الرزق على أصحابها. وكذلك شرع بهدم العشوائيات التي يسكنها نحو 3 ملايين شخص، هربوا من ارتفاع أسعار العقارات في المدن. والمدن العراقية تعدّ من أغلى البلدان في المنطقة في أسعار العقارات، إذ على الرغم من افتقار العراق للخدمات العامة مثل التعليم الجيد والصحة والكهرباء، إلا أن سعر المتر الواحد في المناطق السكنية المتوسطة ارتفع إلى أكثر من ألف دولار، بينما يمتلك العراق مساحات كبيرة وفارغة وغير مستغَلة. الحكومات المتعاقبة وعدت بتوزيع الأراضي وتخطيطها، لكنها لم تفعل، وعوضاً عن ذلك هدمت منازل العشوائيات دون أن تقدّيم بديل لساكنيه

ومنذ غزو العراق في نيسان/ أبريل عام 2003، تقاسمت الأحزاب، بصفقة غير معلنة، موارد البلاد النفطية وغيرها. هي تقوم، على سبيل المثال، ببيع نصيب من الوزارات التي حصلت وفق أساس نظام المحاصصة الطائفي إلى حزب آخر من الطائفة نفسها، وبعدها تجري عملية عرض المشاريع الاستثمارية التابعة للوزارة، التي تقدر قيمتها بملايين الدولارات على مقاولين تابعين للأحزاب، أو بيع الوظائف للمواطنين بآلاف الدولارات للتربّح لحساب الحزب. ثم يقوم الحزب، بالمقابل، بمنح وظائف لبعض السكان لضمان الحصول على الأصوات في الانتخابات,, كما عززت الأحزاب هيمنتها على الدولة، بإضافة مناصب جديدة وبرواتب كبيرة. سمّيت هذه المناصب بـ"الدرجات الخاصة"، وقد وزعت بين الكتل السياسية، وكان عددها عام 2005 حوالي 1847، أما الآن فقد تجاوزت أكثر من 5308 وفقاً لمؤشرات قوى العمل في وزارة المالية. وإضافة إلى رواتبهم، فإن أصحاب الدرجات الخاصة يتمتعون بامتيازات أخرى مثل الحمايات الشخصية، والسيارات، ومكاتب، ومخصصات مالية إضافية. وتوزّع "الدرجات الخاصة" بين الطوائف والقوميات العراقية. فمثلاً يجب أن يكون لكل وزير وكلاء ومستشارون من السنة والشيعة والكرد والقوميات الأخرى. ويعد هؤلاء الشبكة البيروقراطية للأحزاب، وغالباً ما تكون "مُيسّرة" لأعمال إحالة العقود على رجال الأعمال التابعين للقوى السياسية -- بكل الأحوال، عمل النظام على تعزيز مركزية الدولة في مخالفة للدستور الذي شدد على اعتماد "اقتصاد السوق" مساراً لإدارة الشؤون الاقتصادية، وذلك لأن الإيرادات النفطية الكبيرة فتحت شهية الأحزاب على استثمارها للتربّح، فقامت بتحجيم القطاع الخاص 

   وإنشاء قطاع خاص طفيلي يتبع للقوى السياسية، وظيفته الرئيسية الحصول على مقاولات من الدولة بالتنسيق مع رؤوس الفاعلين الكبار في الحكومة والأحزاب. وقد بلغت المشاريع غير المنجزة، الممنوحة لهذا القطاع، نحو 9 آلاف مشروع بقيمة أكثر من 200 مليار دولار، وبذلك احتل العراق المراتب الأولى في البلدان الأكثر فساداً، وفقاً لمنظمة الشفافية الدولية

خلال الأعوام الأخيرة، وتحديداً بعد هبوط أسعار النفط في السوق العالمية، بدأت قيادات الأحزاب تلوم الموظفين بأنهم وراء توقف الصناعة والزراعة وغيرها من القطاعات الإنتاجية، نتيجة لازدياد أعدادهم! ولكن حتى الاستيراد مخصص لأحزاب السلطة، فهي من يمسك بهذا القطاع، وهي من يستورد البضائع التي تتجاوز قيمتها سنوياً 35 مليار دولار وفقاً للجهاز المركزي للإحصاء,, وبالنسبة للنظام، فإن فئة الموظفين والمتقاعدين صارت الجدار الذي يحميه من السقوط. وقد ظهر ذلك جليّاً مع الاحتجاجات الشعبية التي بدأت تظهر منذ عام 2011، وتطالب بتحقيق العدالة الاجتماعية والقضاء على الرواتب الكبيرة لأعضاء الحكومة والبرلمان، والتي كانت تجابهها الدولة بالقمع، وخصوصاً مع التظاهرات التي انطلقت في العام 2012 في جنوب العراق مطالبةً بإلغاء الرواتب التقاعدية لأعضاء البرلمان ومجالس المحافظات التي كانت تمثل 80 في المئة من إجمالي الرواتب. بينما ترفض الدولة منح راتب تقاعدي لأي شخص لا يعمل في الحكومة لمدة 15 عاماً على الأقل، فيما الآلاف من جماهير الأحزاب مُنحوا رواتب تقاعدية، وهم لا يعملون في الدولة ولم يدفعوا توقيفات تقاعدية!! ولا يذكرون توسع استغلال الأموال العامة من خلال منح رؤساء الهيئات الثلاث، الجمهورية ومجلس الوزراء والبرلمان، رواتب سنوية تبلغ 770 ألف دولار لكل واحد منهم، بالإضافة إلى 12 مليون دولار كمنافع اجتماعية--فيما يحتاج العراق شهرياً إلى 4.5 مليار دولار لدفع رواتب الموظفين والمتقاعدين، عدا النفقات الضرورية الأخرى مثل استيراد الكهرباء و شراء الأدوية والوقود وغيرها، بينما إيرادات النفط خلال الشهر الماضي وصلت إلى 2.5 مليار دولار

يمر النظام السياسي العراقي بمرحلة اضمحلال، لأنه حصر تفكيره بالأشخاص العاملين معه، وهم جزء من جمهوره، أو من الذين انتموا إليه للحصول على عمل، ولا يشكلون أكثر من 20 في المئة من سكان العراق. أما سائر المواطنين، فقد وصلت أصوات هتافاتهم أكثر من مرة إلى داخل المنطقة الخضراء، ويعرف الشباب منهم كيفية الاستفادة من مواقع التواصل الاجتماعي، ولا يحتاجون إلى فضائيات وصحف الأحزاب لإيصال آرائهم

هذه المرحلة يفترض بالدولة زيادة إنفاقها وليس تقليله، وتفعيل دورها في تنويع الإيرادات المالية، وإيقاف الهدر الكبير في القطاعات الأخرى، ومثال ذلك ما يجري في المنافذ الحدودية، إذ تقدر اللجنة المالية النيابية حجم الفساد فيه سنوياً بـ 8 مليار دولار، وكذلك قطاع الاتصالات الذي يصل حجم الفساد فيه إلى أكثر من مليار دولار، وهذا عدا التهرب الضريبي، إذ لا يعقل أن هناك مليارات الدولارات تدخل في جيوب الفاسدين.. ولكن الدولة لم تتخذ أي إجراء لاستعادة أموالها المنهوبة

الامال التي عقدها الشعب العراقي على السيد الكاظمي وحكومته تبددت شيئاً فشيئاً نتيجة التخبط وسوء الادارة واستمرار مافيات الفساد وازدياد توحش واجرام المليشيات وانفلاتها بشكل اكبر من السابق. ولعل وباء كورونا شكل فرصة للطبقة السياسية والمليشياوية لالتقاط الانفاس واعادة حساباتها لانها اوصلت البلاد الى حافة الهاوية، وهي ايضاً كانت فرصة للحكومة للعمل بنوع من الاستقرار للسيطرة على بعض الملفات المهمة والبدء بإجراءات تصحيحية تعطي املاً للمواطن العراقي في مستقبله ومستقبل ابناءه… ولكن للاسف الشديد لا الاحزاب والمليشيات اعادة حساباتها ولا الحكومة تمكنت من وضع رؤية لمباشرة خطوات اصلاحية فعلية، وبدل ان نرى تحسن نوعي ولو طفيف في الاداء الحكومي اقحم العراق في مشكلة نوعية جديدة وهو العجز عن دفع رواتب الموظفين واللجوء الى الاقتراض الداخلي والخارجي لدفع الرواتب وهو الحل السهل المؤدي لا محالة الى كارثة الافلاس للدولة العراقية وانهيار عملتها

احذروا ثورة الجياع -- فللعراق مسارين اما انهاء المنظومة الحالية للحكم وبناء منظومة جديدة وهذا خيار اشبه بالمستحيل ,, ونأمل ان تعطي للكاظمي فرصة لاعادة تقييم عمله والمباشرة بخطوات فعلية وليست قرارات كارتونية لتحسين ادارة موارد الدولة ومباشرة اجراءات فعلية في مكافحة الفساد والمباشرة باعادة بناء قطاع الكهرباء وأمور تجعله يحصل على الدعم الشعبي لاستكمال مسيرته ولو في حكومة لاحقة والتي البلد ليس من حافة الهاوية بل من الهاوية التي سقط فيها العراق في ظل الحكومات المتعاقبة 


إرسال تعليق

0 تعليقات