أمي ثم أمي ثم أمي

مشاهدات

 



نوار الزبيدي


قبيل غروب الشمس بقليل، وفي شارع رئيسي كبير، كانت السماء تمطر وتتوقف، فتعاود المطر بصورة اقوى ولكنه ممزوجاً بالبرَد هذه المرة، هرع البعض راكضا من المطر دونما جدوى، والبعض الاخر اختار ان يقف تحت أسقف المحلات، هروباً من المطر كذلك، اما انا فاخترت مكاني على عجالة بمحطة (موقف الباصات)، الشوارع مبتلة بالماء، ولكنها جميلة جداً رغم قساوة البرَد والبرْد، البرْد المذاب مع الرياح العالية القوية اللذان يخترقان الملابس السميكة حتى يصلا الى العظم، كنت أتحسس ذلك.
 بدأ الناس باللوذ لتلك المظلة مثلي تماماً، وفي الجهة المقابلة للشارع كانت هنالك سيدتان تقابلاننا، لم أكن أنتبه لهما إلا حينما رفعت السيدة يدها لإيقاف السيارات لتعبر الشارع برفقة السيدة الكبيرة التي تمسك بيدها الأخرى.. كانتا هاربتان من المطر مثلنا ونحونا، الى المظلة، كانت حافتا الرصيف تحتاجان التمهل وليس العجلة بالنزول والصعود لارتفاعها قليلاً.
مسكت يد والدتها او قريبتها، هكذا ظننت، لتساعدها على صعود الرصيف والسير نحونا، كانتا اثنتان، سيدة في منتصف العمر ومعها امرأة مسنة، نعم مسنة جداً ولقد اخذ العمر مأخذه من تلك المرأة المسنة، الامر واضح، العصى، وانحناءة الظهر، النظارة الطبية، والملابس السميكة جداً التي تكسوها، الى هنا يبدو الموضوع طبيعياً جداً.
 ولكن وبعد ان وقفتا معنا مثلما نحن وقوف كذلك في المظلة لثوان معدودة، فجأة ارتفع صوت المرأة المسنة عالياَ واظن سبب ذلك مشاكل في السمع لديها، حيث تحدثت بصوت عالٍ يسمعه الواقفون جميعاً، إلى السيدة التي كانت تمسك بيدها، بأسلوب الرجاء، بأسلوب الطلب، بأسلوب طفل صغير يطلب من والديه شيئاً، هل حقاً ستشترين لي شيئاً؟ هكذا سمعت او أظن انني قد سمعت ذلك. ولم يهمها المطر والبرْد والبَرد، بل كان يشغل بالها شيئا آخر، ولم أستطع ان اتحمل سماع تلك الكلمات التي ضربتني كصاعقة ولم اتحمل رؤية ذلك المنظر...
 حتى خرجت من المظلة، باكياً، بكيت لوحدي، مثلما افعل ذلك دائما حينما احتاج الى البكاء، بكيت حد الغصة، فلقد تذكرت والدتي التي هي بعيدة عني، والدتي التي انا مقصر شديد التقصير بحقها، تمنيت في تلك اللحظة ان تكون والدتي معي، أن امسك بيدها والأصح ان تمسك هي بيدي.. (نعم) تمسك هي بيدي ولست أنا من يمسك بيدها فبرغم كبر سنها (حفظها الله) إلا انها لا تزال كذلك، تمسك بيدنا رغم انها تريد الاتكاء والمساعدة كوننا نظل بنظرها أولئك الصبية الصغار الذين لم ولن يكبروا ابداً (هكذا تردد دائماً)، تمنيت ان أكون مع والدتي، لأمنحها كل شيء وكل ما تطلبه (ان تطلب) وما لم تطلبه، مقابل طلبي ورجائي منها الدعاء لنا، مقابل ان تتكلم لاستمتع بسمفونية صوتها، مقابل ان تتحرك في المنزل ولو على مهل وببطيء فرؤيتها في المنزل ووجودها فيه البركة، كل الخير والبركة.
فرؤيتها الخير وصوتها الحياة ودعاؤها المستقبل الوفير.
أكملت مشواري تحت المطر، عدت الى منزلي، مبللاً بالكامل، دون ان أشعر بذلك، غيرت ملابسي وهرعت لأكتب هذه الدعوة للأصدقاء والأحبة والناس، لتجديد علاقاتنا بأمهاتنا، وان كانت قوية ومتينة فلتكن اقوى وامتن وأقرب، وان كانت ضعيفة فلتكن روابطها وأواصرها اقوى، فالأم كنز ثمين، الام قوة وطاقة، الام ماض وحاضر ومستقبل، الام واحدة في الحياة ولا تعوض مطلقاً، والايام والعمر يمضيان بلا رجعة
امي، حفظك الله وحفظ الله كل الأمهات ورحم الله اللاتي غادرننا ورحلن.


إرسال تعليق

0 تعليقات