جيش من المجانين ، لكن علماء

مشاهدات

 



د. تحسين الشيخلي 


في يوم 4 أكتوبر عام 1957 و في ذروة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة و الاتحاد السوفييتي ، أطلق الاتحاد السوفييتي ( سبوتنك 1) وهو قمر صناعي يسبح في الفضاء، ولقد اعتبر هذا القمر الصناعي سبقًا حققه الاتحاد السوفيتي ضد الولايات المتحدة الأمريكية، وكان إطلاقه بداية لسباق الفضاء بين القوتين العظميين، بل تعدى ذلك الى سباق في تطوير و انتاج تقنيات جديدة غيرت وجه العالم.

لم تكن الحرب الباردة بين الدولتين حربا بمفهومها التقليدي ، بل هي منافسة على صدارة النظام الدولي الجديد بعد الحرب العالمية الثانية مدفوعا بطموحات كلا الدولتين في السيطرة على النظام العالمي سياسيا و اقتصاديا و عسكريا . كانت تمثل حالة صراع و توتر و تنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وحلفائهم و استمرت من فترة منتصف الأربعينيات حتى أوائل التسعينيات. خلال هذه الفترة، و في ظل غياب حرب معلنة ظهرت الندية بين القوتين العظيمتين من خلال التحالفات العسكرية والدعاية وتطوير الأسلحة والتقدم الصناعي وتطوير التكنولوجيا والتسابق الفضائي. ولقد اشتركت القوتان في الإنفاق الضخم على الدفاع والترسانات النووية والحروب غير المباشرة كما حدث في شرق اسيا و الشرق الاوسط.

 خرجت الولايات من حطام الحرب العالمية الثانية بخسائر متواضعة نسبيا. يقول روبرت ماكمان في كتابه عن الحرب الباردة ( لم تمثل الحرب أي معاناة أو حرمان، بل مثلت رخاء يصل إلى حد الوفرة. تضاعف إجمالي الناتج المحلي بين عامي ١٩٤١ و١٩٤٥ ،ما وفر اقتصاداً عالي الإنتاجية، وقضاء تام على البطالة للمواطنين الذين اعتادوا الحرمان الذي فرضه عقد الكساد المنقضي..) . كما عبر الرئيس الامريكي هاري إس ترومان عن الواقع الاقتصادي حين قال ( لقد خرجنا من هذه الحرب ونحن أقوى أمة في العالم، بل ربما أقوى أمة على مر التاريخ).

كان لحدث اطلاق القمر الاصطناعي ( سبوتنك 1 ) الذي سمي لدى الأمريكيين (صدمة سبوتنك ) صدى لم يذهب تأثيره لغاية اليوم ، حيث ساد احساس لدى الامريكيين بأنه طالما بمقدور الاتحاد السوفيتي ارسال صاروخ يحمل قمر اصطناعي الى الفضاء ، اذن بالامكان ان يرسل صواريخ تحمل رؤوس نووية ممكن تدمر المدن الامريكية ، كان الشعور العام لدى الامريكين ان مدنهم و بلدهم اصبح مكشوفا امام الروس و لابد من أجراء . ففي يوم 7 فبراير من عام 1958 ، ارسل الرئيس دوايت ديفيد أيزنهاور على ( روي دبليو جونسون ) الذي كان يشغل نائب المدير التنفيذي لشركة جنرال موتورز ، وابلغه التالي ( حسب ما يذكر ريتشارد باربر في كتابه عن داربا )

(عزيزي جونسون ، نحن أغنياء ،لا تهتم للمال ، اريد منك ان تدير قسما للبحث و التطوير يعنى بأبحاث مدفوعة بأفكار لديها القدرة على تغيير فهمنا جذريًا لأي مفهوم علمي أو هندسي مهم موجود، بحوث تؤدي إلى إنشاء نموذج جديد أو مجال من العلوم أو الهندسة.تتميز بتحديها لحدود فهمنا الحالي و تنقلنا الى آفاق جديدة، يجب أن نتطلع إلى الأمام في بحثنا وتطويرنا لتوقع الأسلحة غير المتخيلة من المستقبل ).

أسس ألرئيس أيزنهاور مؤسستان تعنى بالبحث العلمي و تطوير التقنيات الناشئة ، هي ، وكالة مشاريع البحوث المتطورة (آربا) والتي أنيطت ادارتها بروي جونسون والتي أضيف لها الحرف ( دي ، للاشارة الى تخصصها بالدفاع) لاحقا لتصبح داربا وارتبطت بوزارة الدفاع و من المفترض ان تخدم بحوثها و مشاريعها المؤسسة العسكرية الامريكية ، وبعدها بثمانية اشهر تم تأسيس الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء والتي يطلق عليها اختصاراً (ناسا ) كوكالة مدنية وليست عسكرية للنهوض بالبحث العلمي السلمي و أنيطت رئاستها بتوماس كيث غلانن الذي كان يرأس معهد كيس للتكنولوجيا ، كليفلاند ، أوهايو ، منذ عام 1947.

في الأيام الأولى من عام 1958 ، بدا أن كل شخص لديه أفكار للتكنولوجيا المتقدمة ، سواء كانت فردية غريبة أو علماء مجنونون أو شركات تعمل في مجال الاسلحة يحاول ان يشارك في برامج أربا . امتلأت صفحات المجلات التجارية مثل مجلة أسبوع الطيران بإعلانات عن ( محطات صواريخ في السماء من شأنها تسريع غزو الإنسان للفضاء) ، والطائرات التي تعمل بالطاقة النووية ، والصواريخ التي تضرب القمر. 

لم تهمل اي فكرة تم تقديمها ، فالافكار المجنونة في نظر القائمين على داربا هي التي تقود الى تقنيات جديدة و مختلفة . 

في سنتها الاولى كان يعمل في داربا ضمن مجاميعها البحثية 140 عالم جميعهم تقدموا بمشاريع بحثية غير مألوفة ، وهؤلاء أتوا من الجامعات و قطاع الاعمال و من القوات المسلحة بالغالب .

اعتمدت داربا اسلوب العمل على شكل مجاميع منفصلة يشرف على كل مجموعة مدير ، و وصل عدد هذه المجاميع لاحقا الى اكثر من 100 مجموعة تعمل في مجالات مختلفة .

أطلق شارون فاينبيركر عليهم في كتابه ( متخيلو الحرب: القصة غير المروية لـداربا، وكالة البنتاغون التي غيرت العالم ) لقب العلماء المجانين ( Mad Scientists )، كما عنون مايكل بيلفيوري كتابه (قسم العلماء المجانين: كيف تقوم داربا بإعادة تشكيل عالمنا ، من الإنترنت إلى الأطراف الاصطناعية ).

أستطاع هذا الجيش من المجانين ان يقدم على مدى اكثر من 62 عام منذ إنشائها ، مساهمات مهمة في مجالات متعددة في علوم الكمبيوتر والاتصالات السلكية واللاسلكية وعلوم المواد ، وكانت البيئة التي أنتجت الأنترنيت الذي غير وجه العالم بتطبيقاته ، أضافة الى أنجازات مهمة في التكنولوجيا العسكرية ، بما في ذلك الذخائر الموجهة بدقة ، وتكنولوجيا التخفي ، والمركبات الجوية غير المأهولة ، وتكنولوجيا الرؤية الليلية بالأشعة تحت الحمراء ، ولم تقتصر ابحاثها على تقنيات الصناعة للاستخدام العسكري بل تعدى ذلك الى تقنيات الدواء و علوم الحياة و البايولوجيا .

يقول احد المدراء التنفيذيين في مشاريع داربا ، ان البرامج التي نتبناها يجب ان تخدم الوطن اولا ثم ننظر في قيمة ما تقدمه لقواتنا المسلحة . 

استطاعت مجموعة من الساسة المهووسيين بالصراعات من تأسيس جيش من المجانين و بالتالي كانت معاركهم العلمية نتاجات غيرت وجه العالم و العلم و التكنولوجيا .

تذكرني هذه التجربة بأخرى مماثلة حاول العراق في زمن النظام السابق ان يتبناها وهي تجربة التصنيع العسكري . الا ان الاختلاف فيما بينهما ، ان تجربة العراق أوكلت الى مجنون ( حسين كامل ) قيادة مجموعة من العلماء يعاملون بأسلوب العصا على أمل ان يحصلوا على جزرة . كان اي منهم اذا تأخر عن الدوام الصباحي يضرب امام الاخرين من قبل جنود حسين كامل بغض النظر عن الدرجة العلمية او المكانة المعرفية او حتى العمر . يالبؤس التجربة و يالبؤس راعيها .

إرسال تعليق

0 تعليقات