لحظة انهيار شركاء الغزو الأميركي للعراق

مشاهدات



د. ماجد السامرائي


الذين يحكمون نهبوا وقتلوا وشرّدوا الأبرياء وأشاعوا الظلم وثقافة سرقة المال العام، وساعدوا المحتل الأميركي ثم الإيراني في تدمير مؤسسات الدولة العراقية.

المتورط الأول في الجريمة جورج بوش الابن

ما نتحدث عنه اليوم هو العراق بعد ثمانية عشر عاما من أبشع غزو عسكري شهده العصر الحديث، حين أعلنت القوات الأميركية في التاسع من أبريل 2003 إسقاط النظام في مشهد هوليوودي تم فيه إنزال تمثال رئيس النظام السابق صدام حسين بعد تغطيته بالعلم الأميركي وتسليمه لمستخدمين عراقيين دفعت لهم أجور سحل التمثال بحماية الدبابات الأميركية.

مؤكد أن بين المبتهجين بنهاية الحكم السابق من انتظر تلك اللحظة التاريخية ووجد أن الأميركان هم المخُلّصون، وليسوا قادة النظام الإيراني الذين وعدوا بثورة شيعية لم تنجح عام 1991، على الرغم من تخطيطهم ودعمهم للمنتفضين بالسلاح الذي تدفق إلى داخل العراق، بعد انسحاب الجيش العراقي من الكويت، حيث سقطت معظم المحافظات العراقية بيد مجاميع من الغوغاء وحصلت خلالها مجازر ثمنها دم عراقي سُفك بسخاء.

كانت عواطف بعض العراقيين وبهجتهم بسقوط النظام الورقة الرابحة الأولى بيد أصحاب المشروع التدميري الشامل (زعماء اليمين الأميركي والولي الفقيه الإيراني). لا تهم الإحصائيات الرقمية لعدد من كانوا مؤيدين للنظام الدكتاتوري قبل التاسع من أبريل 2003 أو معارضيه. المهم هو دخول الجميع عبر بوابة قاعة التنويم المغناطيسي تحت تأثير هلوسات المظلومية الشيعية والدكتاتورية الصدامية والحرية والديمقراطية.

قلّة من بين العراقيين فلتت من ماكينة المَغنَطة الجهنمية وفرق الموت ممن كانوا خارج العراق، أو من الذين استطاعوا الهروب نتيجة حسهم الأمني والسياسي العالي في قراءة المشهد من علماء وأطباء ومهندسين ومثقفين. هؤلاء شكلوا إلى جانب الجيل الشبابي الجديد الذي تكوّن بعد عام 2003 نواة الوعي والتمرّد الثوري ضد الأحزاب الإسلامية عبّرت عنه انتفاضة أكتوبر 2019.

كان منتظرا أن يتمّ التغيير من النظام الدكتاتوري إلى نظام مدني جديد، بعد مرحلة انتقالية قصيرة عبر “انقلاب عسكري” من داخل مؤسسة الجيش الوطنية بعد فشل المشروع الإيراني بالانتفاضة “الشعبانية” عام 1991، حيث اشتغل بعض المعارضين الوطنيين العراقيين على ذلك الحلّ، مثل إياد علاوي، وفق خطة للمخابرات الأميركية. لا تقنع أحدا فكرة عدم قناعة الأميركان بالانقلاب، وهم أصحاب الإرث الطويل في صناعة النظم عبر الانقلابات العسكرية، لكن مشروع قادة اليمين الأميركي، وفي مقدمتهم وزير الدفاع رونالد رامسفيلد، كان تغيير النظام كمقدمة لتنفيذ مشروع التفتيت والفوضى الخلاقة، فتم تغيير أسلوب خطة التغيير من الانقلاب إلى الغزو خلال أيام، لدرجة أدهشت من كانوا يتوقعونه ومن بينهم أحمد الجلبي.

مراجعة سريعة لاعتذارات الرؤساء الأميركان الذين تورطوا بقرار الغزو العسكري أو ممن راقبوه ورفضوه تعطي دلالة لا يريد الكثيرون من خبراء السياسة الأميركان أو بعض السياسيين والمثقفين العراقيين الاعتراف بها، وهي أن هزيمة مشروع الغزو والاحتلال تتطلب رحيل جميع أركانه وسحب الثقة عن توابعه وليس دعمهم.

المتورط الأول في الجريمة جورج بوش الابن، قال إنه ضُلّل. ولا ندري من ضلّله! هل هو ذلك الوسيط الروحي بينه وبين الرب لتنفيذ حرب يأجوج ومأجوج، وزير خارجيته كولن باول الذي أراد تمرير قرار من مجلس الأمن الدولي لشن الحرب، ملوحا بيديه بفرية قناني المواد الجرثومية؛ اعترف في ما بعد بأن خطابه ذاك كان وصمة عار في حياته المهنية. وكشف النائب السابق لمدير الـ“سي.آي.أيه” مايكل موريل في كتابه “الحرب الكبرى” كيف مرر نائب الرئيس ديك تشيني فقرات أضافها مساعدوه ومساعدو رامسفيلد، وعلى رأسهم جون هانا ودوغلاس فايث وسكوتر ليبي، لتمرير أكذوبة أن صدام حسين لعب دورا في هجمات 11 سبتمبر 2001 وأنه كان يملك أسلحة الدمار الشامل. ليعلن مسؤولو المخابرات الأميركية براءتهم من تلك الكذبة.

حكام العراق يمرون الآن بأسوأ أوقاتهم رغم مظاهر الكبرياء المزيف وهم على حافة الهاوية بعد أن أفشلت ثورة شباب أكتوبر معادلة الغزو وفتحت الطريق لعهد مشرق ينتسب إلى الهوية العراقية

الرؤساء الأميركان الثلاثة من بعد بوش جميعهم ما بين رافض ومعتذر، باراك أوباما وقف ضد مشروع الحرب وسحب الجنود من العراق في ديسمبر عام 2011، لكنه سلّم العراق لإيران. دونالد ترامب وصف الغزو بأنه “أسوأ قرار في تاريخ الولايات المتحدة”. والرئيس جو بايدن اعتذر عن تأييده السابق للحرب على العراق.

الخط الثاني في إدارة بوش من المستشارين والمفوضين نفضوا أيديهم من مجموعات التدمير والطائفية والفساد المحلية التي تولت السلطة في العراق؛ بول بريمر مثلا كشف بالأسماء المستوى المتدني لمن أعطاهم وكالة الحكم “الشيعي” في كتابه “عام قضيته في العراق” واصفا إياهم “ما بين مستعجل الحصول على المال، وضعيف الشخصية منتظرا ما تقرره ولاية الفقيه الإيراني”.

في بريطانيا، الحليفة التي لولاها لما نجح مشروع الغزو العسكري، أعلن توني بلير رئيس وزرائها حليف بوش وقت الغزو، عن اعتذاره عام 2016 بعد تقرير جون تشيلكوت البريطاني بعدم قانونية الحرب على العراق.

اختفى قادة اليمين الأميركي بعيدا عن مراكز القيادة في المسؤوليات الرسمية الأميركية العليا (البيت الأبيض والبنتاغون والمخابرات) نهاية إدارة بوش الابن، أمثال ديك تشيني، دونالد رامسفيلد، بول وولفوفيتز، كونداليزا رايس، روبرت كاغان وزلماي خليل زادة. لكن رغم هزيمة مشروعهم في العراق مازالوا يبررون الغزو العسكري تلبية لنظريتهم في الفوضى الخلاقة المندثرة.

استعراض الوقائع والحقائق لا يضيف جديدا لسنوات الاحتلالين خلال الثماني عشرة سنة الماضية، لكن المهم أن تفكيك الغزو بإدانة القادة المشرّعين والمنفذين الأميركان لأنفسهم لم يوقف حالة التداعي الأخطر للاحتلال الأميركي ذاته، حيث انتقلت تبعية مشروع الغزو إلى إيران التي حوّرت الخطاب الخارجي من الفوضى الخلاقة إلى فكرة تصدير الثورة الخمينية وعقائدها ونشرها بقوة السلاح بين العراقيين عن طريق الوكلاء.

هذا الانتقال الوظيفي لهوية مشروع الغزو واستمراره يحمل تفصيلات كثيرة دامية بعد أن تم تفكيك المجتمع العراقي إلى فريقين، الأول موال لطهران والثاني عراقي وطني معارض أصبح مؤثرا في الخمس سنوات الأخيرة. هناك أسئلة على هامش هذا الانتقال مازال الجمهور العراقي يبحث عن أجوبة لها، من بينها ما يعود زمنه إلى اللحظات الأولى للاحتلال وأسباب عدم إفتاء مرجعية السيستاني في النجف بمحاربة المحتلين الأميركان، مثل فتواه في الجهاد الكفائي ضد احتلال “داعش”. ولو حصل مثل ذلك ضد الغزاة الأميركان لكانت صورة العراق مختلفة عما هي عليه الآن.

الأسئلة الأخرى تتعلق بما أفرزه واقع الاحتلال الأميركي من أنصار موالين للحكم الجديد وضعوا أنفسهم زورا في خانة ممثلي “الطائفة السنية”، التي أصبح رجالها مطاردين متهمين وأغلب النساء أرامل مفجوعات بفقدان رجالهن وضياع مستقبل الملايين من أطفالهن اليتامى. هذه الفئة من مدعي التمثيل السياسي السنّي هي الأكثر خطورة في خيانة الوطن والملّة.

من الطبيعي، استنادا إلى تاريخ الشعوب والأمم، أن تتم محاكمة مناصري ومشاركي خدم احتلال العراق، لا أن تُقلب المعادلة فيستمروا بالحكم تحت دستور وقوانين الحاكم بول بريمر ومصادقة المرجع السيستاني. ثم تتم عمليات وقحة بتكريم قادة الغزو الأميركي على أرض بغداد، مثلما حصل في إهداء إبراهيم الجعفري لدونالد رامسفيلد وزير الغزو سيف “ذو الفقار”، أو في زيارة نوري المالكي لمقبرة القتلى الأميركان في واشنطن عرفانا لهم بالجميل. لتستمر حملة الخداع الرخيص المكشوف بالدعوات الحالية لإخراج القوات الأميركية التي حضرت بدعوة رسمية عراقية عام 2014.

هذه الصورة معتمة وقاسية، فالذين يحكمون نهبوا وقتلوا وشرّدوا الأبرياء وأشاعوا الظلم وثقافة سرقة المال العام، وساعدوا المحتل الأميركي ثم الإيراني في تدمير مؤسسات الدولة العراقية كالجيش، وتفكيك المجتمع العراقي طائفيا في ظل الفوضى. هؤلاء يمرّون الآن بأسوأ لحظة تاريخية، رغم مظاهر الكبرياء المزيفة المرسومة على وجوههم. هم الآن على حافة الهاوية والسقوط، بعد أن أفشلت ثورة شباب أكتوبر 2019 معادلة الغزو المركب أميركيا وإيرانيا، وفتحت الطريق لعهد مشرق جديد ينتسب إلى الهوية العراقية.

في هذه اللحظات تنتاب حكام العراق حالة خوف تستدعي التمسك بالسلطة وإشاعة فكرة الخوف بين أنصارهم، وتقود إلى تنفيذ أبشع الإجراءات البوليسية ضد الناس. لقد سمعوا خلال الأيام القليلة الماضية بخبر مواجهة عادل عبدالمهدي رئيس الوزراء السابق محاكمة متوقعة في باريس في سبتمبر المقبل، قدمتها أسر شهداء ومختطفين حملته مسؤولية تلك الجرائم. وقد منعته المحكمة الفرنسية من مغادرة فرنسا، باعتباره يحمل الجنسية الفرنسية، وفق ما نشرته كبرى الصحف الفرنسية.

في مزج دراماتيكي ما بين لحظات الوقوف على حافة الهاوية والخوف المسيطر على حكام العراق تحصل عملية الانهيار في النفس، بينما ترتفع ثقة شباب العراق بالنفس. فإرادة شعب العراق لا بد أن تنتصر.

إرسال تعليق

0 تعليقات