النيوليبرالية ومنطق الدولة الهوبزية الفوضوية؟

مشاهدات

 




الكاتب والباحث السياسي
الدكتور أنمار نزار الدروبي



المقال هو عرض نقدي لمقال " الفوضى هي ما تصنعه الدول منها: البناء الاجتماعي لسياسات القوة" لعالم السياسة الأمريكي ألكسندر وندت.
في عام 1992 كتب عالم السياسة الأمريكي من أصل ألماني، ألكسندر وندت مقال بعنوان (الفوضى هي ما تصنعه الدول منها: البناء الاجتماعي لسياسات القوة)، التي نُشرت في المنظمة الدولية. لقد أشار وندت إلى أن الفوضى (غياب السلطة المركزية في النظام الدولي) أو حالة الاعتماد على الذات في الأمن هي، عبارة عن رؤية ناتجة عن تفاعل اجتماعي أنتجتها الممارسات التي قام بها الفاعلون في النظام الدولي، والتي أثرت وتأثرت بالوقت نفسه في بنية هذا النظام. بمعنى آخر إن رؤية الدول لطبيعة النظام الدولي والنتائج المترتبة على هذه الطبيعة هي، نتاج عمليات اجتماعية بين الوحدات الفاعلة، وهي الدول وتفاعلها مع بنية النظام الدولي.
إن أهم ما جاءت به أفكار ألكسندر وندت، تدور حول طبيعة الفوضى ومدى تصرف وسلوكيات الدول الناتجة عن التفاعل بين الهيكل الدولي للسلطة وعملية التفاعل بين الدول. لقد أقر وندت بالحجة النيوليبرالية التي قدمها كل من (جوزيف ناي وروبرت جيرفيس وروبرت كيوهين) الذي يطلق عليه (الليبراليين القويين)، على النقيض من الليبراليين الذين ينتمون إلى الواقعية والعقلانية التي يدعي (الليبراليين الضعفاء).
في الوقت نفسه يرى وندت أنه يمكن أن تتحول مصالح الجهات الحكومية من خلال عملية التعلم والإدراك وكذلك التفاعل وتحت التأثير الفعال للمؤسسات والنظم في السياسة العالمية، ولكنها تتجاوزها لتطوير نظرية بناءة للسياسة الدولية حيث تكون الهويات والمصالح، عملية بدلا من أن تكون خارجة عن ذلك، وبهذا يتم بناؤها اجتماعيا. كما أن منطق الفوضى في رأي وندت عرضة للتغير. من هنا صنع ألكسندر وندت خطوات نظرية كبيرة في تطوير البنائية، في دفاعه عن نظريته (الفوضى في النظرية الاجتماعية للسياسة الدولية).
يرى ألكسندر وندت غالبا ما تشكل الفوضوية، أفكارا أو تفاهمات مشتركة، أو من خلال المعرفة المشتركة، فهي إحدى أطروحاته المركزية في نظريته للبنائية وهي أن الثقافة تكمن وراء المصلحة، لاسيما يتم تحديد معنى توزيع السلطة على المستوى الدولي النظامي من خلال التشكيلات الثقافية التي تشكلها الأفكار المشتركة التي تشكل القواعد والمؤسسات.
وفقا لما تقدم، يرى وندت أن معنى الفوضى على المستوى الدولي أو السلطة والمصالح مسألة توزيع، فإن الدول تعتمد في جزء مهم على التصورات التي تتبناها بعضها البعض أو الأفكار المشتركة التي تشكل هوياتها ومصالحها في نظر الآخرين. ويعتمد معنى وآثار السلطة والمصالح على أفكار الفاعلين. فعلى سبيل المثال لا الحصر، إن التعزيز العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط أو الخليج العربي ينقل معان مختلفة لإسرائيل والسعودية وإيران. وعلى حد رأي وندت، إن مئات الأسلحة النووية البريطانية أقل تهديدا للولايات المتحدة من خمس دول كورية شمالية بسبب التفاهمات المشتركة التي تقوم عليها، ما يعطي معنى لقوى الدمار هي (علاقات الدمار) التي تكون جزءا لا يتجزأ منها، الأفكار المشتركة، سواء كانت تعاونية أو متنازعة، التي ترتكب العنف بين الدول.
إن النظرية البنائية لأكسندر وندت حول كيفية تنظيم علاقات السلطة وفهمها في النظام الدولي تنبع من افتراضين أساسيين هما أولا، أن هياكل التنظيم البشري تتحدد أساسا بالأفكار المشتركة بدلا من المواد، ثانيا، أن هويات ومصالح الجهات الفاعلة المتعمدة تقوم على أساس هذه الأفكار المشتركة بدلا من أن تعطيها الطبيعة.
ويؤكد وندت أنه على المستوى المنهجي للتحليل، فإن الفوضى تتشكل وتعمل بشكل مختلف. ومن الجدير بالذكر هنا، أن ثقافة الفوضى الهوبزية، تلك الثقافة التي هي السبب المتساهل للحرب في رأي زعماء المافيات، فإن العلاقات بين الدول تتسم بالعداوة أكثر من أي شيء آخر، بيد أن وندت لا يعترف بحق الذات في الوجود ككيان مستقل، وبالتالي لن يحد عن طيب خاطر العنف ضد الذات.  ويضيف وندت أن بعض العداوات هي حقيقة، في أن الآخر حقا يهدد الوجودية، كما فعل النازيون اليهود.
يوضح وندت أن التغيير الهيكلي النوعي في السياسة الدولية الذي نشأ في القرون القليلة الماضية أساسا عن طريق إنشاء نظام ولاية ويستفاليا، وهو ما يعني أن الحياة والعيش المنطقي للمجتمع الفوضوي في لوك قد حل محل منطق الدولة الهوبزية الطبيعية. ووفقا لرأي وندت إن التنافس الخارجي بين الدول، مقيد ببنية الحقوق السيادية المعترف بها في القانون الدولي، وإلى حد ما يقوم على سيادة القانون.
وتأسيسا لما تقدم، يعتبر وندت التنافس الجماعي على المستوى الهيكلي الكلي للنظام الدولي يخلق مجتمعا فوضوي وفقا لأربعة توجهات، الأول، ذلك المجتمع فيه القبول المتزامن للحرب كوسيلة طبيعية ومشروعة للنهوض بمصالح الدولة وتضييقها كأداة لقتل الدول. الاتجاه الثاني الذي يلي من الحرب الأولى، هو إذن من عضوية مستقرة نسبيا أو خفض معدل وفيات الدولة في النظام الدولي. وحقيقة أن هذا الاتجاه أو العضوية ينطبق فقط على الدول التي يعترف النظام بها سيادتها، وبالتالي يضع مصير الدول غير المعترف بها إلى جانب الدول المعترف بها، بحكم ضعف الدول الصغرى أو حتى الفاشلة، ي تناقض صارخ مع حقبة ما قبل وستفاليا، من أجل البقاء، لأن المجتمع الدولي يعترف بسيادة سيادته القانونية في العصر الحديث.
أما الاتجاه الثالث هو الجهد لتحقيق توازن السلطة الذي يرى فيه وندت، بأن إذا كانت الدول تعتقد أن سيادتها هي معترف بها من قبل الآخرين، وبالتالي بقاءهم ليس على المحك، نحو تركيز السلطة. وأخيرا الاتجاه الرابع، هو أنه في نظام الفوضى لوكان، يصبح الحياد أو عدم الانحياز مركزا معترفا به نتيجة لقدرة الدول على حل خلافاتها، على الرغم من ميل الدول إلى العنف والمعضلات الأمنية.
في السياق ذاته يحدد وندت ثقافة ثالثة من الفوضى في السياسة الدولية ويدعوها (كانتيان ومركزية الصداقة) لاسيما إن هيكل الدور الذي تقوم عليه ثقافة كانطان هو (الصداقة) وفي إطار هيكل الأدوار هذا، يتوقع من الأصدقاء أن يتبعوا قاعدتين أساسيتين هما أولا (قاعدة اللاعنف) التي تعني حل النزاعات دون اللجوء إلى الحرب أو حتى التهديد بالحرب، والقاعدة الأخرى هي (المساعدة المتبادلة)، أي اتخاذ العمل الجماعي كفريق ضد من الخارج الذي يهدد أمن عضو الفريق.
وبناء على ما تقدم، فإن التكوين المعرفي والبناء الفكري لألكسندر وندت يقوم على المعرفة والسبب أو الحجة (توجهه الابستمولوجي) إضافة إلى فلسفته المثالية غير المادية استنادا إلى علم المنطق. في السياق ذاته نلحظ أنه يتلاءم عنوان الموضوع (الفوضى هي ما تصنعه الدول منها: البناء الاجتماعي لسياسات القوة). مع المحتوى بدرجة كبيرة حيث جاء العنوان معبرا عن الاتجاهات والحجج الرئيسية التي تبناها الكاتب، فبينما جاء العنوان تحت مسمى (الفوضى هي ما تصنعه الدول) فإن الحجج الرئيسية كانت تدفع بالقول نحو الفوضى وسياسة القوة من وجهة نظر الكاتب، والذي ربطه في تكوينه المعرفي وبناءه الفكري الذي يقوم على المعرفة والسبب والحجة من خلال توجهه المعرفي وفلسفته المثالية. مع العرض قد استند ألكسندر وندت إلى النظرية (البنائية الطبيعية) في تحليله وبناء فكرته حول الفوضى في النظام الدولي وما يصنعه البناء الاجتماعي وسياسات القوة للدول، وقد وضع وندت نظريته في كتابه (نظرية اجتماعية في السياسة الدولية). حيث يرى وندت أن مصير الدول غير المعترف بها إلى جانب الدول المعترف بها، بحكم ضعف الدول الصغرى أو حتى الفاشلة، يمثل تناقض صارخ مع حقبة ما قبل وستفاليا، من أجل البقاء، لأن المجتمع الدولي يعترف بسيادة سيادته القانونية في العصر الحديث.




إرسال تعليق

0 تعليقات