صفحات من التاريخ الإسلامي / قاهر المغول

مشاهدات

 




د.محمد فتحي عبد العال
كاتب وباحث وروائي مصري


هو السلطان المملوكي المظفر سيف الدين قطز ويقال أن أصوله ترجع إلى الخوارزميين الذين حكموا آسيا الوسطى وأفغانستان وإيران وأن اسمه الحقيقي هو محمود بن ممدود وأن خاله هو السلطان جلال الدين خوارزم شاه الذي دخل في حروب مع المغول ..كانت بداية معرفة إقليم خوارزم بالإسلام مع فتوحات القائد المسلم  قتيبة بن مسلم الباهلي في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك وقد انتقلت تبعيته بين الدول الإسلامية المختلفة حتى آل للدولة السلجوقية وفي عهد السلطان  علاء الدين محمد خوارزم شاه الثاني ابن علاء الدين تكش شهدت الدولة استقلالا واسعا واتساعا كبيرا على حساب جيرانها فغزا جميع أراضي بلاد فارس  وجميع الأراضي من نهر سيحون إلى الخليج العربي وطلب من الخليفة الناصر  في بغداد الاعتراف به وبملكه فلما رفض عزم على غزوه لكن هبوب عاصفة ثلجية  عند عبوره لـجبال زاغروس علاوة على مهاجمة قواته من الجبال عصفت بأحلامه مع موت الكثير من قواته..  كان هذا التوسع وهذا التهور في ذات الوقت  دون دراسة للعواقب  والتبعات   هما العنوانين الفاصلين  لبداية التشييد واتساع بؤرة التداعي  لدولة السلطان  محمد خوارزم إذ أصبحت أملاكه   متاخمة للمغول وحاكمهم هو "تيموجين" أو "تيموغين" إمبراطور المغول ومؤسس الدولة والمعروف بجنكيز خان وهو لقب يعني قاهر العالم أو ملك ملوك العالم  وهم قوم وثنيون أشداء لا يعرفون سوى الحرب وحياتهم فظة وشديدة البدائية والعنف والشراسة...كانت حادثة  احتجاز مجموعة من  التجار  المغول أرسلهم  جنكيز خان لإقامة علاقات تجارية مع الدولة الخوارزمية  في مدينة أترار التابعة للدولة الخوارزمية على يد حاكم المدينة "ينال خان" بتهمة التجسس لحساب المغول  هي الشرارة التي أهلكت الأخضر واليابس وحطمت الدولة الخوارزمية حيث رفض السلطان جهود الإفراج عنهم وقيل التحقيق في قتلهم حيث قيل أن حاكم المدينة قتلهم في روايات أخرى  كما قابل  جهود   خصمه جنكيز خان في التأسيس لعلاقات دبلوماسية والشراكة التجارية بشىء من الاستخفاف وسوء الظن غير مبال بقوة جنكيز خان الذي فتح الصين في ذلك التوقيت وقد أبدى جنكيز خان حسن النوايا بمخاطبته السلطان ب "أنت عندي مثل أعز أولادي" و"ولدنا الحبيب إلى قلوبنا" وقيل أن السلطان أقدم على قتل البعثة التجارية المغولية والتي كانت تضم مسلمين أيضا بقرار منه خشية أن تكون تمهيدا لتبعية بلاده للمغول وكراهيته أن يكون تابعا لكافر  مما أشعل غضب  جنكيز خان فأرسل جيشا كبيرا إلى بخارى وسمرقند  زلزل الأرض من تحت عرش السلطان الذي استوعب خطأه بعد فوات الأوان ففر من المواجهة وكان ضعيف الهمة حتى استقر بجزيرة آبسكون في وسط بحر قزوين مع نفر قليل من رفاقه منهم ابنه جلال الدين فيما سقطت والدته  "تركان خاتون"  والتي كانت المتصرفة في كثير من شؤون البلاد بشكل غير مسؤول  في قبضة جنكيز خان لتتجرع الهوان والذل  ..
كانت وصية السلطان محمد خوارزم شاه لابنه جلال الدين قبل وفاته باستعادة  ملكه من جديد وقد عهد إليه بولاية العهد وسط غيرة إخوته الآخرين مما ولد صراعا بينهم بعد ذلك ...وقد بلغت شدة فقر السلطان محمد في أواخر أيامه والذي مات بداء ذات الجنب ( من أمراض الجهاز التنفسي ويصيب غلاف الرئة مسببا حمى وضيق في التنفس وألما في الجنب)  أنهم   لم يجدوا مايكفنوه فيه فكفنوه في فراشه الذي ينام عليه..
حاول ابنه السلطان جلال الدين منكبرتي تنفيذ الوصية لكنه بدلا من أن يستعيد مملكة أبيه من الصفر حط بها إلى ما تحت الصفر إذ حارب على جميع الجبهات في نفس الوقت واصطنع أعداء من العدم وأراق دماء مسلمين أبرياء منصرفا عن عدوه الأساسي فخسر كل شىء ولو امتثل لقوله تعالي  في سورة الأنفال  :(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) لكفته..ولكن من يتعلم ومن يتأسى؟!!
بدأ جلال الدين عهده بأن اتخذ من غزنة قاعدة لجهاده فاستبشر الناس به خيرا  وألحق بالمغول هزيمة ساحقة عند "بروان" ويقال في "بلق" قرب غزنة  إلا أن تخلي بعض القادة عنه وأبرزهم  "سيف الدين بغراق" والطمع في الغنائم  أضعف جيشه فحاول الفرار عبر نهر السند مع من تبقى من جيشه لكنه عجز عن تدبير السفن اللازمة لنقلهم لخشية بحارة هذه السفن من انتقام المغول فتلاقى الجيشان مرة أخرى ولكن شجاعة السلطان وبسالته لم تكن لتصمد أمام التفوق العددي للمغول ففر السلطان مع جنوده بأن قذفوا أنفسهم على ارتفاع كبير ليسبحوا للجهة الأخرى من النهر  ..
بلغ سخط جنكيز خان أوجه أمام هذه الشجاعة النادرة  فخنق ابن السلطان جلال الدين والذي كان عمره ثمان سنوات بين يديه وقد وقع أسيرا فيما أغرق السلطان نسائه في النهر خشية أن يقعن في قبضة المغول  ..
وصل السلطان وصحبه إلى  الهند حيث  تمكن من تجميع صفوفه وحشد قواته مرة أخرى واشتدت شوكته حتى أصبح غير مرحب به بين حكام الهند  فعاد للجهاد مرة أخرى ضد المغول فضم  ملك عراق العجم وفارس وكرمان وأذربيجان  إلى سلطانه ثم حاول ضم العراق الواقع تحت سيادة الخلافة العباسية لكنه آثر السلامة في النهاية واختار الصلح  كما ضم تبريز لملكه بعد زواجه بملكتها وفتح  تفليس ...كما دخل في حروب  مع  الأيوبيين وسلاجقة الروم واللذان دخلا في تحالف ضده فانهزمت قواته ...طبعا طوال هذه الفتوحات والحروب والتي  كان السلطان منشغلا بها عن المغول أعدائه الأساسيين وفاتحا جبهات كثيرة مع أعداء كثر بعضهم من بني جلدته ومستحلا لدماء ممالك مسلمة فقد كان أيضا المغول في شغل شاغل عنه مع وفاة كبيرهم (جنكيز خان) واختيار خليفة له وما أن نصبوا (أوقطاي خان) خلفًا له حتى انطلق طوفان المغول نحو السلطان جلال الدين مجددا ليخسر أملاكه إلى غير رجعة  وأصبحا هائما وحده لا يعرف إلى أين يذهب ؟!!حتى قادته قدماه إلى قرية بالقرب من جبال كردستان فقتل بيد رجل كردي انتقاما لمقتل شقيق له بيد جند السلطان وقيل أغار عليه مجموعة من اللصوص وقتلوه وقيل أنه عاش متنكرا حتى نسي الناس أمره  ...

 كان من ضمن الأسرى من عائلة خوارزم شاه بطل موقعتنا محمود وأطلق عليه المغول "قطز" أي "الكلب الشرس" لكثرة مقاومته لآسريه وتم بيعه في سوق الرقيق بدمشق ثم بمصر  ودخل في خدمة الملك الصالح نجم الدين أيوب آخر ملوك الدولة الأيوبية ثم أصبح الساعد الأيمن لسيده عز الدين أيبك قائد المماليك المعزية وحاكم مصر بعد ذلك حيث ظل في طاعته ونائبا عنه ثم نائبا عن ابنه الملك المنصور نور الدين علي بن أيبك  ...
يرى البعض أن قصة انتساب قطر للدولة الخوارزمية محض أوهام روج لها قطز كجزء من الدعاية السياسية له وأذاعها بين الناس عبر  قوله لأحد المنجمين  « انا اكسرهم (أي المغول) وآخذ بثأر خالي خوارزم شاه" أو ربما كانت وليدة تراث السير الشعبية الذي يختلق ويضيف ما يشاء إلى أحداث التاريخ لتلميع  أصحاب هذه السير وأن الحقيقة أنه من مغول القبجاق ولهذا الرأي وجاهته إذا علمنا أن بيبرس وهو أيضا من القبجاق قد ألحقت به نفس القصة في التراث الشعبي وأنه  محمود بيبرس الدمشقى العجمي الخوارزمي!!!
لا ينبغي إن أردنا أن نرسم صورة صحيحة ومتكاملة عن قطز أن نختزل ملامح هذه الصورة في فترة سلطنته التي لا تتجاوز العام بل لابد وأن نضعه في سياق فترة حكم سيده الطويلة أيضا والتي تضمنت أحداث هامة كان فيها قطز شريكا أساسيا وضالعا في صنعها ومنها مثلا قتل منافس  أيبك على السلطة "فارس الدين أقطاي" غيلة وهو زعيم المماليك البحرية ومالاقاه مماليكه بعد ذلك ومنهم ركن الدين  بيبرس البندقداري   من نفي وتشريد فيما  أصبح  لمماليك أيبك وهم المعزية ومنهم قطز  الكلمة والنفوذ والسلطان فى مصر كما أننا لا نستطيع أن نغفل دور قطز في اعتقال شجرة الدر بعد قتل زوجها أيبك وتمكين زوجة أيبك الأولى منها لتضرب بالقباقيب حتى الموت وتلقى عارية من أسوار القلعة وقد كان يمكنه التصدي لذلك أو على الأقل منعه...ومن هذه النظرية الموضوعية نقطع الطريق أمام شطط البعض في وصف قطز بأنه من المجددين في الدين ممن قصدهم النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف : "إنَّ اللَّهَ يبعَثُ لِهذِه الأمَّةِ على رأسِ كلِّ مائةِ سَنةٍ من يجدِّدُ لَها دينَها".

نأتي لمعركة عين جالوت حيث وصلت رسل المغول إلى مصر حاملة رسالة من هولاكو  يقول فيها "من ملك الملوك شرقًا وغربًا القان الأعظم ..يعلم الملك المظفر قطز، وسائر أمراء دولته .. أنا نحن جند الله في أرضه ، خلقنا من سخطه، وسلطنا على من حل به غضبه. فلكم بجميع البلاد معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم وأسلموا لنا أمركم، قبل أن ينكشف الغطاء، فتندموا ويعود عليكم الخطأ، فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرقّ لمن اشتكى، وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد، وقتلنا معظم العباد ، فعليكم بالهرب، وعلينا بالطلب، فأي أرض تأويكم، وأي طريق تنجيكم، وأي بلاد تحميكم؟ فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص، فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال، فالحصون لدينا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع، ودعائكم علينا لايُسمع فإنكم أكلتم الحرام، ولا تعفون عند كلام، وخنتم العهود والأيمان، وفشا فيكم العقوق والعصيان، فأبشروا بالمذلة والهوان ..  (فَٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِى ٱلْأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ   سورة الأحقاف آية 20)..وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ (الشعراء آية 227)".
فرد قطز : "قل: اللهم على كل شىء قدير والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبى الأمى، على كتاب ورد فجرا عن الحضرة الخاقانية، والسدة السلطانية نصر الله أسدّها، وجعل الصحيح مقبولا عندها، وبان أنكم مخلوقون من سخطه، مسلطون على من حلّ عليه غضبه، ولا ترقون لشاكٍ، ولا ترحمون عبرة باكٍ، وقد نزع الله الرحمة من قلوبكم، وذلك من أكبر عيوبكم، فهذه صفات الشياطين، لا صفات السلاطين، كفى بهذه الشهادة لكم واعظا، وبما وصفتم به أنفسكم ناهيا وآمرا، قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون، ففى كل كتاب لعنتم، وبكل قبيح وصفتم، وعلى لسان كل رسول ذكرتم، وعندنا خبركم من حيث خلقتم وأنتم الكفرة كما زعمتم ألا لعنة الله على الكافرين"..
المتتبع لرسائل هولاكو للسلاطين المسلمين يجدها مجتمعة   على استخدام   الأسلوب البلاغي والترهيب السجعي والاستشهاد القرآني فيها في موضعه أحيانا وفي غير معناه أيضا في أحيان أخرى على الرغم من أن المغول لم يكونوا أهل كتاب ولم تكن الدعاية الدينية على أجندتهم العسكرية لكن الواضح أنهم انتدبوا لهذه المهمة عرب موالين لهم يعرفون كيف يخاطبون الشعوب الإسلامية مستخدمين الدعاية الدينية ومستحثين حمية الخلاص من الظلم لدى المستضعفين من هذه الشعوب أما  رد قطز فاتشكك في صحته لكثرة السجال المنطقي فيه ومقارعة الحجج ببعضها والذي حتما لن يفهمه المغول ولو ترجم إليهم بلغتهم مئات المرات علاوة على سؤال مشروع كيف أرسل قطز  هذا الرد ؟!! وقد قتل رسل المغول كما سنرى فيما بعد !!! أم كان ردا ارتجاليا وهو أمر أيضا غير ممكن ..
قرر قطز أن يستعد للمعركة بتأمين الجبهة الداخلية فعزل الملك المنصور نور الدين علي بن أيبك وكان طفلا وهو نائبا عنه واعتلى مقعد السلطنة وحتى يطمئن الأمراء المماليك قال لهم : "إني ما قصدت إلا أن نجتمع على قتال التتر ولا يأتي ذلك بغير ملك، فإذا خرجنا وكسرنا هذا العدو فالأمر لكم أقيموا في السلطة من شئتم" كما أصدر عفوا  عاما وشاملا عن المماليك البحرية الذين فروا إلى الشام بعد مقتل زعيمهم فارس الدين أقطاي ومنهم بيبرس..
كانت تحديات الإعداد لهذه المعركة المصيرية من حول قطز كبيرة فالأمراء المماليك لا يريدون الحرب لقد خلدوا للراحة واختاروا الدعة وأخبار المغول الذين لم يهزموا في معركة قط جعلتهم في يقين حول نتيجة المعركة سلفا وخاطرهم يميل للمهادنة والاستسلام فاجتمع بهم قطز وخاطبهم بنبرة حادة قائلا : "يا أمراء المسلمين، لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، فإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين" فأجاب البعض دعوته للجهاد  وتردد آخرون فأردف قائلا : "أنا ألقى التتار بنفسي" فلما رأى الأمراء المتخاذلون منه هذا الإقدام  مضوا معه على كره ..
وحتى يقطع الطريق أمام المتخاذلين وكل من يهاب المعركة بأن المواجهة باتت لا رجعة فيها ولا سبيل للتفاوض بشأنها أو المراجعة  وحتى يلهب حماس الناس في الشوارع في نفس الوقت فقد أمر بضرب أعناق رسل التتار الأربعة بعد تشاور مع بيبرس وهي مسألة غير أخلاقية إذ لابد وأن يبقى السفراء في مهامهم الدبلوماسية في معزل عن وتيرة الخلافات وشهوة الانتقام وساحات المعارك والدعايات السياسية المخضبة بالدماء ولكنها في النهاية تقاليد سادت هذه العصور في الحشد الجماهيري وشاعت في إظهار التحدي بين الممالك قاطبة وعلقت الرؤوس على امتداد مصر  في الريدانية وباب النصر وباب زويلة وسوق الخيل حتى تكون على مرأى من الناس جميعا..
من التحديات الأخرى كان تدبير المال اللازم للمعركة فتم حجب ومنع  الكثير من مظاهر الرفاهية عن الأمراء المماليك ومصادرة  بعض أموالهم  ونفائسهم وبيعها لاستيفاء الشق الشرعي  بفتوى الشيخ العز بن عبد السلام  من أنه: “إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب قتالهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم، بشرط ألا يبقى في بيت المال شيء، وبشرط أن يؤخذ كل ما لدى السلطان والأمراء من أموال وذهب وجواهر وحُليّ، ويقتصر الجند على سلاحهم ومركوبهم، ويتساووا والعامة…” ثم كان التحول بعدها لأخذ الأموال من العامة  ففرضت ضرائب عقارية وأخذ ثلث الزكاة مقدما كما كان الاضطرار لفرض ضريبة على الأنفس وقدرها دينار على كل شخص فتجمع لديه ستمائة ألف دينار مصرية كما صادر أموال الأيوبيين الفارين من الشام ..
امتازت إدارة عين جالوت بالحكمة والاستفادة بكل ما هو ممكن ومتاح والأخذ بالأسباب إلى أبعد مدى  ففتح باب التطوع أمام الناس فانضم للواء الجيش المصري الإسلامي بعض القبائل العربية بقيادة أمير العرب شرف الدين عيسى بن مهني بن مانع وكذلك عناصر الجيش الشامي الفارين على اختلاف تركيبتهم العرقية من أكراد وتركمان وقيمرية وشهرزورية كما استفاد قطز من المعلومات التي كانت ترسلها بعض العناصر العربية المندسة في جيش المغول والتي كانت تظهر التحالف معهم وفي قلوبهم وفاءا مع أبناء جلدتهم  مثل صارم الدين أزبك بن عبدالله الأشرفي..
زود صارم قطز عبر رسوله بثلاثة أمور مهمة الأولى أن هولاكو قد غادر ومعه عددا كبيرا من جيشه  وأن ميمنة التتار أقوى من الميسرة وأن على الجيش الإسلامي أن يستغل هذه الثغرة ويقوى من الميسرة وأن الأشرف الأيوبي أمير حمص منخرط في جيش التتار على كره وسينهزم بين يدي المسلمين ..فأخذ قطز المعلومات ووضعها في الاعتبار مع شىء من التوجس لعدم معرفته بصارم الدين من قبل وخشيته من أن تكون حيلة مغولية خبيثة..
كما نجح قطز في تحييد جبهة الصليبيين في الشام لتكون بمفازاة عن المعركة المقبلة وقد حافظ الصليبيون على هذا العهد لعدة اعتبارات سياسية ودينية ومنها رفض بابا الفاتيكان للتحالف مع المغول علاوة على خشية الصليبين من نوايا المغول بعد استيلائهم على صيدا أحد معاقلهم فساروا على قاعدة "عدو نعرفه" وهم المسلمين خير من "عدو نجهله ونجهل مطامعه" وقد يكون أعظم خطرا وأشد وطأة ألا وهم المغول ..
كما اتفق بيبرس وقطز على الالتجاء للحيلة والايقاع بالعدو بين فكي كماشة في ساحة القتال حيث هاجمت مقدمة الجيش الإسلامي بقيادة بيبرس جموع المغول ثم تظاهرت بالانسحاب ليحاول المغول تتبع فلول الجيش الإسلامي فيما كان قطز قد أعد هجوما مضادا يعاونه الخيالة الفرسان فوق الوادي  وتم تطويق جيش المغول فهجم كتبغا بعنف شديد لكسر الحصار مما أدى إلى خلل في جناح ميسرة المسلمين واضطراب في جموعهم فيما ثبتت الميمنة والقلب وهنا ألقى قطز بخوذته إلى الأرض وكان جواده قد قتل فترجل وقد خشى أن تدور الدائرة على جيشه وصاح بأعلى صوته "وا إسلاماه" وحمل بنفسه ومن معه على المغول بشىء لا يخلو من التهور الشديد فاضطربت صفوفهم وألقى الله في قلوبهم الرعب  فيما عاد للمسلمين حماسهم وكانت هذه الصيحة مفتاح النصر وقتل كتبغا  بيد جمال الدين آقوش الشمسي, وهو من مماليك الناصر يوسف الأيوبي أمير دمشق  كما حرر المسلمون الشام ايضا..
الطريف في موقعة عين جالوت أنه استخدم فيها ولأول مرة سلاح المدفعية  والبارود وكان مسحوق أو معجون البارود يتكون من نترات البوتاس والفحم والكبريت إلا أن صراعا بين المؤرخين قد نشب فالبعض يرى أن الأسبقية في ذلك كانت  للمغول وليس للمماليك ...
ولأن المسلمون في هذه الموقعة قد سعوا وأخذوا بالأسباب جميعها كما رأينا فقد أعانهم الله بأسباب إلهية وجنود لم يروها ولم يطلعوا  على ثقلها في قلب الموازين ونقلها من حال إلى حال  {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} مما جعل انتصارهم حاسم ونهائي فقد رحل هولاكو بشكل مفاجىء  مع عدد كبير من جيشه إلى تبريز (فارس)  قبل المعركة كما ذكرنا وذلك بعد أن  واتته الأخبار بموت شقيقه "منكو (مانغو)خان" خاقان التتار تاركا "كتبغا النسطوري  ( أو كيتبوقا نويـَن وهو قائد تركي  من قبيلة النايمان التركية المسيحية على المذهب النسطوري والقاطنة بمنغوليا)" على قيادة جيش المغول بالشام وأوكل له مهمة غزو مصر  فيما جهز هولاكو نفسه  لمتاعب حسم خلافة  منصب الخاقان الحيوي  والأكثر أهمية كما رتب جيشه ليكون على أهبة الاستعداد   لمواجهة السرطان الإسلامي المتنامي في جسد أسرته الوثنية  والذي يمثله ابن عمه بركة خان بن جوتشي (أو جوجي) بن جنكيز خان   والمعتنق للإسلام والطامع في التحكم بمنصب الخاقان ..

كان جنكيز خان  قبل وفاته قد قسم امبراطوريته بين أبنائه الأربعة : جوتشي (جوكال) وجغطاي (جاغطاي) وتولي (تولاي) وأوقطاي  ...لكن تشاء الأقدار أن يموت جوتشي الأبن الأكبر في حياة أبيه وكان أبناء جوتشي ومنهم "بيرق خان" أو بركة خان بعد إسلامه هم الأكثر تعاطفا مع الإسلام ودارت روايات عدة حول السبب في ذلك  منها أن  جوتشي قد تزوج الأميرة رسالة بنت علاء الدين خوارزم شاه، أخت السلطان الخوارزمي جلال الدين منكبرتي، (تحدثنا عنه)  فكان لها تأثير كبير في أبنائه،ومنهم بيرق خان وقيل أن ذلك لتأثر بيرق خان بالتجار المسلمين ببخارى وقيل لتأثره بالصوفية وخاصة العالم الصوفي والإمام المحدث الزاهد "سيف الدين الباخرزي" وقيل الفقيه "نجم الدين مختار الزَّاهِدي الغَزْميني" وقد كتب له  الرسالة الناصرية في النبوة والمعجزات.
تولى بركة خان زعامة القبيلة الذهبية الروسية أو مغول القبجاق (دولة مغول الشمال والتي منحها جنكيز خان لابنه جوتشي ) وأرسل للخليفة المستعصم ببغداد بيعته باعتباره زعيما سياسيا وروحيا يمثل الإسلام بالعالم كما شيد مدينة سراي ( سراتوف حاليا) كعاصمة للمغول المسلمين وحاضنة لعدد كبير من المساجد وقبلة للعلماء والفقهاء ..
لعب بركة خان دورا كبيرا في عرقلة مطامع ابن عمه "هولاكو بن تولي خان" تجاه العالم الإسلامي وأخر هجوم هولاكو على بغداد حاضرتها حينما وسط أخيه "باتو" والذي كان زعيم القبيلة الذهبية قبله ولم يعتنق الإسلام لوقف جموحه فامتثل هولاكو على مضض لأمر "باتو" حتى توفي الأخير فدكت قوات هولاكو بغداد ..
وكان هولاكو قد أعد كل شىء مبكرا لمعركة بغداد  فوطد علاقته بمؤيد الدين بن العلقمي وزير الخليفة العباسي الشاب المستعصم  ووعده بحكم البلاد بعد التخلص من الخليفة العباسي وقد كان ابن العلقمي يحلم بانتقال الخلافة من بني العباس إلى العلويين فقبل وهذه من صور محن التفكك والطائفية في عالمنا الإسلامي ..استغل ابن العلقمي حسن نية الخليفة وضعف جانبه وقلة حيلته  وثقته به فأقنعه أن يستسلم حقنا لدماء المسلمين وأن هولاكو جاء طالبا تزويج ابنته بابن الخليفة الأمير أبي بكر كبادرة على حسن النوايا  والإبقاء عليه في منصب الخلافة كصهر وحليف كما فعل بصاحب الروم في سلطنته..انطلى الأمر على الخليفة ووجدها ابن العلقمي فرصة للقضاء على كل رجال الدولة والعلماء والفقهاء والأمراء  دفعة واحدة فدعاهم جميعا لخيمة الصلح التي تضم الخليفة وهولاكو حيث ضربت أعناقهم جميعا وبقي الخليفة فاحتاروا في أمره وقد خشي هولاكو من ضرب عنقه لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرر بدلا من ذلك وضعه في بساط وضربه وركله حتى يعترف أين يخبىء كنوزه ثم الاستمرار في رفسه حتى الموت ويقال أن ابن العلقمي ذاق جزاء خيانته للخليفة كبيرا وفي روايات أخرى أن هولاكو استعمله كحاكم من قبل السلطة التترية الجديدة وهو الأرجح عندي ...
شق على بركة خان ما حل بالخليفة وبعاصمة الخلافة من دمار وأضمر في نفسه الانتقام حين تحين الفرصة لذلك ..
من بغداد انطلقت جحافل المغول تستولي على حلب ودمشق وأنطاكية وما نال المغول ما نالوا إلا بضعف المسلمين وإيثارهم الحياة وكراهيتهم للموت إلى الحد أن   أحد سلاطين السلاجقة الروم ويدعى "عز الدين كيكاوس الثاني" كان قد تصدت بعض قواته للمغول دون علمه فلما علم  أرسل معتذرا لهولاكو بطريقة مبتكرة حيث رسم صورته  على فردتي حذاء وأهداهما له  ليتشرف بوضع قدميه على صورته !!!
صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال : (يُوشِكُ أن تَدَاعَى عليكم الأممُ من كلِّ أُفُقٍ ، كما تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِها ، قيل : يا رسولَ اللهِ ! فمِن قِلَّةٍ يَوْمَئِذٍ ؟ قال لا ، ولكنكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيْلِ ، يُجْعَلُ الْوَهَنُ في قلوبِكم ، ويُنْزَعُ الرُّعْبُ من قلوبِ عَدُوِّكم ؛ لِحُبِّكُمُ الدنيا وكَرَاهِيَتِكُم الموتَ)..
بوفاة مانغو خان واشتعال الصراع على خلافته بين إخوته أرتق بوكا وقوبلاي خان.. أخذ بركة جانب أرتق  فيما أخذ هولاكو جانب قوبلاوي و أصبح بركة وهولاكو وجها لوجه في  صراع دموي ضروس  على وراثة الحكم  ..
هذا الصراع كان منحة إلهية فقد شغل هولاكو عن محاولة   استعادة الشام مرة أخرى والانتقام لما حدث في عين جالوت حيث أوقع الصراع بجيشه العديد من الهزائم وقتل ابنه  فأصيب بالصرع  ومات كمدا ...
وقد توطدت العلاقة بين بركة خان وبيبرس بعد مقتل قطز وبلغ اعتزازهما بهذه الصداقة والتحالف حد زواج بيبرس من ابنة بركة خان وتسمية ابنه منها بالسعيد بركة   وربما كان لأصول بيبرس وقطز كمغول قبجاق مسلمين  أثر في ذلك أيضا ..
ولكن يبقى السؤال الذي لابد وأن يراودنا  كيف قتل  قطز ولماذا ؟!
والإجابة حاضرة ولا تحتاج لذرة تفكير ولا مناص من الاعتراف بها  فالمماليك هم المماليك حتى في أدق الظروف أشتاتا غير متجانسة من البشر لا يعرفون الطاعة لحاكم ولا الاستقرار السياسي ولا الولاء لقضية دينية شاملة فقد قتل قطز بعد انتصاره  بخمسين يوم عند الصالحية  وهو في طريق عودته من دمشق إلى القاهرة حيث استغل القتلة انعزاله عن الجند وانطلاقه خلف أرنب لصيده وتقدم إليه بيبرس يطلب شفاعته في أمر فشفعه فأمسك يده ليقبلها وكانت هذه إشارة متفق عليها بينه وبين باقي القتلة من الأمراء الذين انطلقوا على قطز بالسيوف وألقوه عن فرسه ورشقوه بالنشاب حتى تأكدوا من مصرعه ..تتفق أغلب الروايات على مسؤولية بيبرس عن عملية الاغتيال ولكن تختلف الروايات بشأن الدوافع فبعضها يرى أن النية كانت مبيتة للانتقام من قطز لدوره في قتل أقطاي كما أسلفنا وقيل لأن قطز وعد بيبرس بإمارة حلب وأخلف وعده وقيل لأن قطز تملكته الخيلاء وخاطب الأمراء بشكل من الاستخفاف والتنمر مما حرك في نفوسهم الرغبة في الانتقام وقيل لأن بيبرس كان يرى نفسه صاحب هذا الانتصار والأولى بأن يضاف إلى اسمه ولا يشاركه فيه أحد وأنه الأولى بالسلطنة أيضا فقد حارب المغول ومن قبلهم الصليبين في حملة لويس التاسع ملك فرنسا على دمياط والمنصورة ..
يغالي البعض في رفع قطز إلى درجة المجددين في الدين (تحدثنا آنفا) وإلى نسبة العدل إليه  ولخليفته بيبرس استنادا إلى ما رواه العلماء نقلا عن ابن تيمية من أن النصر مرهون بعدل الدولة حيث يقول ابن تيمية: (إنَّ الله يقيم الدَّولة العادلة، وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدَّولة الظَّالمة، وإن كانت مسلمة)
طبعا العبارة ظاهرة الخطأ والبطلان فالله ينصر دينه أولا وأخيرا  وعباده المؤمنين  ولو بعد حين وما كان الله لينصر كافرا أبدا وإنما هي ابتلاءات لصلابة المؤمنين وحثا لهم في سبيل الإيمان القوي مع الأخذ بالأسباب الكونية فإن عادوا لجوهر الإسلام غلبوا عدوهم وانتصروا لدين الله وإن ضعفوا وتهاونوا غلبهم عدوهم لبعض الوقت   استغلالا لضعفهم وابتعادهم عن دينهم الإسلامي الدين الحق ولو كره الكافرون وليس أبدا تأييدا من الله لعدل الكافرين!!! وإلا لما كان هناك فرق بين مؤمن وكافر ..
وأكبر مثال واقعي وحي على خطأ هذه المقولة انتصارات المماليك والدولة المملوكية أبعد ما تكون عن إقامة العدل في كل شئونها ومع ذلك كان تأييد الله لدينه ولعباده منهم المؤمنين ولو كانوا قلة وليس الأمر مرهون بعدل حاكم أو دولة وإلا لما انتصر المماليك والعثمانيين  في أي موقعة إطلاقا ..
قد يحلو لبعض المؤرخين المعاصرين الانتصار لهذه العبارة ولو على حساب التاريخ فيزيفون ويحذفون ويضيفون ويتجاهلون  ويهملون من أجل إسباغ صفات على بعض السلاطين المماليك والعثمانيين الذين احرزوا انتصارات كبيرة ليست من شيم هؤلاء السلاطين وصفاتهم والذين كانت تحكمهم جميعهم الوصولية والانتهازية والصراعات الدموية   والفرقة والاغتيالات  ومبدأ الحكم لمن غلب واغتصاب أموال الناس بالباطل  وشاعت في عصورهم أبشع الجرائم الإنسانية وأشد صور الانحطاط الفكري والتدني الأخلاقي وشاع الجهل وسادت الخرافات وكانت موطن ما عرف بشيوخ السلاطين ...


إرسال تعليق

0 تعليقات