رواية جزيرة الاحلام . ج٣

مشاهدات



هناء الالوسي


ان نهاية كل الاحزان والاوجاع ستكون ذاتها بداية عشق لحياة جديدة وعذبة . حينما لاح في الافق أمل لم اكن ادري ولكن سأقبل بالقليل القليل وسأفرح بأي ثمرة من ثمارك وأي وردة تقطفها من بين اغصانك فالقليل لدى الفقير كثير . يامن تدرك معنى النبض الجميل وتبتسم في لحظات البكاء وتنسج رسالة شوق من الدمع على الورق . ماذا سيحل بي حين يجنُّ الليل ؟

اذكر لحظة مصرعي حين اللقاء وترانيم الغزل في متاهات الحب والقمر حينها كيف رشق نوره على وجهك  . ليتك تبقى حلما في عيني  ولا تهجر الاغاني وقت الرحيل وقصائدي التي اكتبها لاتهملها عند المسير . لاتتجاوز غيابي وتحلم ان تكون سعيد  ا فالليلمازال مظلم طويل والعمر يمضي بسعادة تارة واخرى في حزن ونحيب . فرائحة حنينك تمكث مابين الضلوع . لهذا لن اصدق اني رحلت بعيدا عنك فبقاياك المتناثرة تسري في ارجائي .

ورعشة قلبي برقة مقلتيك  . ماذا فعل الامل ؟
 لست اعلم  لاني احلق مثل الطير نحو الجنة
ام هي هاوية ترمى الغواية؟
ام يموت الزهر بكثرة الماء؟
شيطاني اللئيم سرق ياقوتة الحنين
وتذوق من كأس الهجر النبيذ المعتق
اغرق القلب في بحر نقي وثمل العقل حتى الجنون
سأرتدي ثوبا مطرزا بالشوق والحنين
وامكث بين حروفي والسطور .

والان تعلمت الكثير . وياليتني لم اتعلم معنى الامل فالقرار يعني توقف ألعقل عن التفكير في قسوة لم يعهدها احد .. يدهشني ذلك الحبر الذي يرسم طريقا أمشي فيه لاهون على النفس وطئة الحزن العميق فلكل حدث نهاية قد لانتمناها ولا نطمح أن نصل أليها لكن أقدارنا تكتبها وتسطرها من حولنا بأسلوب بائس مؤلم كمن يسرق طفلا من أحضان أمه ويقطف زهرة أينعت للتو ويدفع بغيمة نحو أرض آمنة ومظلة لايختبئ تحتها من مطر ومعطف معلق لايستجري احد على ارتداؤه في برد قارص ينهك الاعضاء ويجمد العروق . قد نكون جمادا لانستشعر فقط . نستجمع المشاعر الحزينة التي مالبثت ان تأخذنا الى صحراء جرداء نتشبث بالسراب نحسبه ماء  ولكن حينما تأتيك ضربة موجعة تعيدك الى الوراء . تستفيق لتقف حول نفسك ويكون القرار أما تكون او لا تكون . حينها تدرك أن النسيان قاتل محترف في اختيار الضعفاء لايسرق منك ومني ومن ذاك مالا فحسب انما ابتسامتك وابتسامتي . ذكرياتك وذكرياتي . فرحك وفرحي وغالبا مايوهمنا أننا لسنا قادرين على تذوق السعادة الحلو .  تجاهل حزنك وأعلو بعقلك الى الامام واتخذ القرار . نعم يؤذيني الغياب المر وتحتظن ضلوعي  لحظات الوداع .. ويجعل الندم ليالي العمر سوداء كسماء تمطر حجارة من سجيل .

هكذا هي الحياة لم تعطنا مانريد ولم تلد لارواحنا فارس الاحلام وتجعلنا دوما نتخبط في فصول الضياع مابين اليأس والحزن والفراق حتى تسدل الستار ويصفق الجمهور وتنحني الرؤوس أحتراما . نعم انها أمراض الحياة التي ليس لها شفاء  . العقل لديه الدواء فوضع حدود التفكير في دائرة مغلقة تجعلك كسجين حرب لم يحكم عليه بالأعدام رغم ان تهمته خيانة الوطن . هكذا هي الحياة بين مد وجزر وظلم واستياء من كل ماهو جميل وضّاء .

الأن ادركت أن الأبحار الى عالم اخر بعيدا عن الاوجاع تقينا من أعاصير الحياة .. لربما البحر غدار كما يقولون لكنه صريح واضح في أمواجه . سنبحر ونطوي صفحات الألم ولتكن السعادة حاضرة كما الروح في الجسد . نقتل كوابيس اليأس والحزن حتى نلتقي الفرح في عالم أخر وان كان في الحلم ... سيكون بداية تحول وستبقى الحياة غير مكتملة ينقصها كل من احببناه من حولنا وقاتلنا من اجله وافنينا اعمارنا .. لاتهمني بيد من ستكون اوراقي بقدر ماسطر قلمي وكتبت اوجاعي  ..هواجس وثقتها وانا على مقربة من القارب الذي سياخذني بعيدا .. السماء ترسل لي نجمة بيضاء لتسير أمامي فأتبعها دونما خوف لتنير طريقي في رحلتي .

امسكت بها فتبسمت وتربعت على عرش قلبي وعزفت لحنا من حنايا الامل . فسقت زهور عمري التي ذبلت .. سأبحر بعيدا وسأقف على مرسى شاطئي ومحطة احلامي وسأعانق ذاك الكون الغريب الذي احلم به ويحتل فضاءات روحي واشعر بالامان كقطة تبحث عمن يداعبها ويلامس شعرها كي تغفو بأمان  . وصل القارب الذي سيقلنا الى الضفة الاخرى من الحياة فقد انتهت حالة الهذيان المؤلمة حيث لحظة الفرح الممزوج بالدموع التي تسع احلامنا وابتساماتنا الخجولة الناعمة الي ترتسم في عيوننا  وقد هجرنا احزاننا  .

انطلق وانطلقت في داخلي امنيات كثيرة واحلام كبيرة . نظرت لمن حولي فذاك الشاب بدا بصوته الحنون يطلق الاغاني ليكسر الغضب الذي كان بداخله وهذا يتأمل القمر ويغازله وكأنه يطير فوق الغيوم التي تجمعت في السماء وتلك الصغيرة صاحبة الضفائر الشقراء المعلقة بأحضان والدتها ترتجف خوفا وبردا وشاعر يتغزل بالنجوم ويصفها كملاك نزل من السماء وهو يشع نورا رغم تلبدها بالغيوم . وتلك الفتاة التي احتضنت حبيبها وهي تنظر بوجهه وتداعب عيناها عينيه بنظرات الشوق والحب .

مرت الساعة وانحنت صخرة الحزن تحت واقع الامل واطلقت الروح امنيات واحلام واطفئت نيران الذكريات حتى مات القلب دونها . الليل وسواده وذاك الفضاء الواسع . حدثتني سيدة كانت تجلس بجانبي وقالت : في هذا الوقت والمكان اشعر أنني نادمة على الرحيل فلربما لن ننجو ولن نصل الى مانصبوا اليه .. توفي زوجي أثناء الحرب وعندي طفلة هاهي تجلس بجانبي وقد حلقت الذكريات في راسي كنسر يبحث عن فريسة يشبع بها جوعه فلربما البحر ذاك النسر .. لو لم نبحر بعيدا لحملت حقائبي وعدت الى منزلي ولكن لن يفيد الندم الان وليس لي مفر . حاولت ان احدثها لكنها قالت : بلا لا أريد ان اسمع اي شي فلا ينفع فانا قلقة وكثيرا ما اهذي كالطيور الجميلة التي تحلق فوق القمم حينما تقترب نحو النجوم وهي تهبط بسرعة النسور الى الارض . هكذا أنا .

وما ان اكملت حديثها حتى ادارت وجهها نحو الجانب الاخر وصمتت . وفجأة اقترب منا قارب لخفر السواحل فاصابنا الرعب والخوف مما سيفعلونه .. هل سيوقفونا ؟ ام سيتركونا ؟ .. هل سيعيدونا الى بلادنا ؟ ...اقترب اكثر فأكثر ثم غير مساره بعيدا عنا .

سألت نفسي لماذا لم يعترضونا ؟

اجبتها .. ربما تركونا لنلاقي مصيرنا في البحر او انهم شعروا بما قاسينا من غربة في اوطاننا كغربتهم بين هذه الامواج او انهم ارادوا ان نحاول تحقيق احلامنا في ارض غير التي سرقت آمالنا . ابحر القارب بعيدأ والظلام دامس مخيف حتى بدا البرق والرعد يتوهج في السماء واضطرب البحر كثورة أشبه بشيطان سيطر على ضعيف الارادة وتلاطمت الامواج بشدة وبدا القارب يترنح بينها كأنه رجل ثمل لايسيطر على قوائمه وارتفع الصراخ والعويل فذاك الذي يندب حظه حيث ترك وظيفته وتلك التي تركت اهلها وزوجها وتردد بصوت عالي يرتجف خوفا . لانهم قالوا لها انك ستموتين في البحر وتلك الطفلة الجميلة التي تصرخ اماه اعيديني الى بيتنا . لا انكر الخوف الذي اصابني ولكني على يقين أننا سننجو ولكن بصبر وأيمان  ومابين تأملي بالنجاة وملاقاة مصيرنا المحتوم في البحر خطر في ذهني اننا سنكون وجبة عشاء شهية لتلك الحيتان . الا ان الامل يراودني بالنجاة وتارة يكون اليأس متغلب على افكاري . انه مزيح التفكير تحت وطأة مايحدث في البحر . نهض شاب ثلاثيني العمر ورمى حقيبته الصغيرة وصرخ بأعلى صوته لن ادع البحر يلتهمني ولكني ساقفز بأرادتي . كم كان مؤلما حين استشرى اليأس بالنفوس ؟

كانت كلماته الاخيرة مؤلمة لي حينما ردد انتهت حياتي لم أكن اعلم أن البحر سيقطفها مني ولكن ساتخلص مما عانيت ورمى بنفسه وكانت صدمة قوية حيث اليأس غلب الايمان فلا مكان لحب الحياة والمغامرة مع الضعف واذا بالشابة ترمي بنفسها خلفه بعدما كانت تردد عبارة ان كان حبيبي قد مات فلم العيش بدونه  فنحن عزمنا على الرحيل معا والان سأرحل اليه والتقي به هناك . كان مشهدا مروعا ومؤلما حقا .

ذرفت عيناي الدموع املا بالله أن ينجينا وماهي الا لحظات حتى اشتد المطر وانقلب القارب وتناثرت اجسادنا في عرض البحر ولانعرف عن بعضنا البعض شيئا ولحسن حظي كنت ارتدي نجادة اعطانا اياها صاحب القارب .

تصارعت مع الموج كأني اصارع لص حاول سلب بيتي ودافعت عن نفسي بكل قوتي . دفعتني الامواج بعيدا لكنني تشبثت بلوح خشبي كأن الله جعله في طريقي ..هدأت الامطار وبدا الظلام يختفي رويدا رويدا وأنا أحاول وأحاول أن اصل الى شاطى قريب أو ربما جزيرة او أرى سفينة تنقذني او طائرة تحلق .. حتى بدأت أفقد السيطرة فقد غلبني التعب وارهقني التفكير والخوف مما لاقيت لكني في ذات الوقت احاكي نفسي الا تستسلمي وجاهدي وحاولي الوصول الى هدفك ولا تدعي اليأس يتغلب عليك ويقتل حلمك الذي من أجله قررت الابحار وخوض هذه المغامرة المريرة .

لاحت في الافق الخيوط الاولى لشروق الشمس فبكيت فرحا لانني ربما نجوت حتى ظهرت أمام انظاري أشجار كأنها غابة خضراء . حدثت نفسي وودعت عنها الخوف وحزمت قوتي الباقية حتى أصل الى هناك  . لم أكن أعي ماسيجري ولكني على يقين اني سأصل الى هناك . فقدت الوعي ولربما غفوت لا أعلم كم من الوقت ولكن صحوت على زقزقة العصافير وتغريد الطيور  . فتحت عيناي فاذا بي على شاطى جزيرة . لم اصدق وضربت على وجهي حتى أعي ما انا فيه هل هو حقيقة أم حلم ؟

شكرت الله ورميت بنفسي على الارض اتلمس التراب .. حينها ادركت اني نجوت من الموت .. وهذا يعني ان علي ان اكتب صفحات جديدة من تاريخ حياتي منحها الله لي . لكن لاملئها انجازات ونجاح وعلم وسعادة ...

إرسال تعليق

0 تعليقات