تقناتُ ومرجعياتُ "حلويات" السّراي

مشاهدات




قراءة: د. وليد جاسم الزبيدي


وصف المجموعة الشعرية:المجموعة الشعرية (حلويات) للشاعر العراقي(عمر السراي) منشورات دار دور ببغداد، ط1، 2022، عدد الصفحات: 188صفحة، عدد نصوص المجموعة(81) نصّاً.


المقدمة (غرابة العنوان)


وأنتَ تقرأُ المجموعة الشعرية المشاكسة (حلويات) تحتويك وتبعثُ في نفسك سؤالها الأول ، لماذا (حلويات) غرابة العنوان والدلالة . العنوان يحيلني الى الطفولة، وطقوس أيام الحلويات في المناسبات العراقية (النجاح، الأعراس، عودة مهاجر، الافراج عن سجين، ختان الأولاد..) صور تتشظى في العقل والروح، أتنفسها وكأني أعيشها الآن، وما أجمل الحلويات العراقية وهي تُرمى على الرؤوس فـ(تفشخُ) رؤوسَ الجميع ويضحكون طرباً، هي وحدها (الحلويات) التي لا نزعلُ منها وهي تحطُّ على رؤوسنا بل نفخرُ بها. وهناك مزية في الحلويات العراقية التي تختلفُ ربما عن حلويات الأمم الأخرى، أنها تكون خليطاً (المصقول، الملبس، الجوكليت، ...) فهي خليط وهجين متجانس حلاوةً، إذن هي ما تشبه (الكوكتيل)، هذا ما يُرسمُ في مخيلتي وأنا أبدأ بالعنوان، وما إن تلجُ المجموعة، حتى تتيقنَ من ثبات اختيار العنوان، سنجد في النصوص هناك الشكل (العمودي) و(التفعيلة) و(النثر) بل و(الشعر الشعبي) وكلمات الأغاني الشعبية (عراقية وعربية).

سمعتُ وقرأتُ بعضَ ما كُتِبَ عن المجموعة ، فلم يختر أحداً موضوعة (مرجعيات المجموعة) وهي جانبٌ أو ركنٌ هامّ تكتنزهُ القراءة، وفيها إحالات كثيرة، فالذي لم يعلمْ الإشارةَ لا يفقه دلالتها. ومرجعيات أي نص تكشفُ ثقافةَ الكاتب واتجاه سير نصوصه. فوجدتُني أتعقبُ مرجعيات(السّراي) وقراءاته واطلاعاته، بل تكتشفُ أيضا ميله وعشقه لبعض النصوص في الأدب القديم والحديث، والأغاني والمغنّين، بل والأفلام السينمائية والممثلين، إذن المرجعيات هي عالمُ ما وراء النّص. 

قبل أن أفتحُ باب مرجعيات نصوص (حلويات) لابدّ أن أقف عند محطّاتٍ قصيرة، أراها لاتقلّ أهميةً عن المرجعيات بل أجدها أحياناً ركناَ من أركان المرجعيات.


1/ التقنات : أقرأُ وأشاهد، في ثنايا نصوص (المجموعة) روح ورائحة العصر، ومنْ يقرأ المجموعة بعد سنين طوال، سيفهم في أي عصرٍ قيلت وكُتبت هذه النصوص، فالنّص عبر تاريخ الأدب العربي والآداب العالمية هو رسالةُ عصره، وابن بيئته، وهكذا وظّفَ (الشاعرُ) أدوات ما يستخدمها الانسان ليجعلها شاهدةً عليه، ورموزا له ، بل هويته التي يحملها ومن خلال هذه الأدوات يعلن عن عصره. فكانت نصوصٌ تكادث أن تكون كاملة، وعنوانات نصوص ، فيها من التقنات العلمية والاجراءات والسلوك وثقافة (الشاعر) في استخدامها وكيفية استخدامها والتعايش معها وكيف تُعبّر عمّا يعتلجُ في احاسيسه وفكره، ونتلمس ذلك في بعض ما نورده وسنختصر كثيرا(سيلفي)،(الهيدفون)، (وأنتَ تحتضنُ جوّالك حينَ تُكبّرُ صورتها..ص:47)، (وأنتَ تتحوّلُ الى سيلفي وتتحوّلُ هي الى لقطة سناب جات..ص47)، (Zoom) ، (وإنّ من أجمل لقطات Zoom in)) ص:62، (يذوي –كاسيت- حناجرهم ، ص: 81) وهي إشارة الى الفنرة السبعينية من القرن الماضي، ثم ، ( دوت Com /سأشتري هاتفاً ذكياً لعشقٍ أبله /ص:85). ثم (ضبط المصنع)، و (امتلآت الذاكرة)، خرائط (الكوكل)، وغيرها الكثير.


2/ النّظّارةُ: ترتبطُ (النّظارة) في بعض نصوصه لتُشكّلَ بعضاً من شخصيتها ودلالتها، كما هي حاضرةٌ فعلاً في شخصية (الشاعر)، وهي جزءٌ من ملامحهِ وهويّتهِ،أو هي الأيقونة التي تشير اليه. فالنّظّارةُ هي رفيقتُهُ التي تُدوزّنُ الصور وتقرّبُ اليه البعيد ، وتُريه ما يريدُه، وتشوّش وتشوّه ما لا يريد رؤيته. قُلْ هي ريبوت (الشاعر). فهو يقولُ: (المقدمة / ص7/ نحنُ نُبصرُ –حتى من دون نظّارتين- ما خلفَ الحائط) ، ( ولأنّ عديد المبصرين المرتدين نظّارتينِ للزينةِ أكثرُ من قصار النظرِ اليوم/ ص: 8) ، و ( ليجلسَ قلبي بعدض أن يخلعَ نظّارتيهِ قربَ المذياع../ ص: 44) ، (نظّارةٌ فوقَ قلبك/ ص: 51)، ثمّ ( أصيرُ طفلاً بسكسوكةٍ ونظّارةٍ طبّية.. /ص: 143).

 

3/ الأغاني: لروحهٍ المرحة، وبهجته ، ورؤيته ورؤاه، في أن الأغنية لسان حال الناس، المغلوبة تارةً، والمترفة تارةً أخرى، والمترجمة لواقع حيثما كان ويكون، ويجعلُ من موسيقى الأغنية تتسلل الى النّفس قبل الأذن، ويعطي مساحةً لصوت المغنّي بأن يصدح على صفحات المجموعة، أليسَ الشاعر هو المغنّي الأول في كل عصر؟، فهو يتحسس ألم وحزن المفردة، ولوعة الصوت وعذوبته، ترى وتسمع صوتاً يتجسّدُ في أذهان منْ عاش عصر المغنّي العراقي الكبير (داخل حسن) وأعود هنا أقول (بنظّارته) وعباءته وعقاله، والأهم مسبحته التي يعزفُ عليها ويضبطُ ايقاع الأغنية معها، مسبحته هي مايسترو الفرقة الموسيقية بقيادة (فالح حسن)، هكذا أرسمه وأتخيله. ففي المجموعة، (ويصرّ على أن يمسح (عيناكِ)، و (سألوني الناس) لفيروز، (وبين جرفين العيون،) وأكملها (وآني كاتلني العطش)،وشرد أعاتب يالبريسم، بصوت الجميل حسن بريسم، و(مجنوني) وهي أغنية للمطرب: وليد الشامي، ثم يتنقل كعصفورٍ شادٍ، لينقلنا الى أغنية أخرى(وأنا كلي ملكك) للرومانسية (شيرين)،/ص:40. 

ثمّ في ص: 54، (سعف وكرب) من أغنية حسين نعمة(نخل السماوة)، ويكملها في نصّه (طرّت النخل سمرة) يكتبُها بتصرّفٍ حاذق ليوصل الفكرة للمتلقي أيّاً كانت ثقافته وهويته. وبعدها يربطنا بأغاني الأفلام وكأنها يعيد أشرطة السينما الستينية والسبعينية في صالات العرض التي كانت تعجّ ببغداد وكل المحافظات، ونتابعُ اعلاناتها في الصحف أو على جدران الأسواق. في ص/ 56: (أَعِدْ الينا شاديةَ المتعثّرة من على بايسكل عبد الحليم ) وهي إشارة الى فيلم (معبودة الجماهير) للمخرج حلمي رفله؛ انتاج سنة 1967، ثم يقول النّص ( وأعِدْ الينا عبدَ الحليم، ليُتمّ القُبلةَ الثانيةَ بعد المئة، علّ أباهُ ينزلُ من فوق الشجرة)، وهي إشارة واضحة الى (فيلم أبي فوق الشجرة)، وهو فيلم من قصة (احسان عبد القدوس) واخراج(حسين كمال) انتاج سنة 1969. ويأخذنا نحو السينما الغربية ، في ص/56: (.. فلو كنتَ مخرجاً / كانَ الأجدى أن تصيرَ (لومير) لا/ (هيتشكوك)... ولو كنتَ  مطرباَ/ لن أقولَ لك سوى أن تُغنّي لداخل حسن.).. ص126 يقول: (...وراءَ عفيفة اسكندر... وأكاسرُكِ بصوت شادية وهي تقول : (ألو) / وأصطحبُكِ لندخّنَ ونستمعَ لأم كلثوم ببدلتك السواريه...).


4/ التّناصُّ: مسألةُ التّناص هي بوصلةُ الشاعر واتجاه النّص للمتلقي، به يعرف المتلقي الى أين يريد به النّص والى أي هدف يسعى، والتّناصُ هو خارطة طريق معرفي ، يعكسُ مدى تمكّن الكاتب أيّاً كان، والنّص بأي شكل أدبي، مدى قدرته في ايصال الرسالة ونجاحه من عدمه. فالتّناص سلاحٌ ذو حدّين، إمّا أن تستطيع توظيفه بشكلٍ ابداعي تضفي عليه روحا ومعنى آخر، أو أن يقتلَ النّص .

وهنا نرى طريقة الشاعر وأسلوبه في استخدام التناص وتوظيفه في خدمة النّص والفكرة-الرسالة- بإسلوب مبتكر يكاد يبتعد عن معنى النص الآخر تماماً. 

في ص: 12 : (ولأنّكَ لا تؤمن بمن يؤمنون بك..)/ ربما كانت هناك مقولة الى بيرتراند راسل نقول: (ربما تنجح إن آمن بك الآخرون ، لكنك لن تنجح قط ما لم تؤمن أنت بنفسك.). وقول الشاعر في مجموعته : ( أنتَ الواحدُ الأحدُ الفردُ الصمدُ). وهذا النّص يردُ في الدعاء : (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ). وقول الشاعر : ( وأنت يامنْ اختزلتنا بثمانية وتسعين اسماً../ وعُدتَ لتأخذ ألـ(تاسعهم) بد التسعين منّي..) وهي إشارات دينية ، استخدمها في منحىً آخر يصوّر حالةً أخرى باتجاه ودلالة مغايرة تماماً... وفي ص15: (نفخَ اللهُ صوتَهُ في حناجر المغنّين...) .. وفي ص/ 22: (تُكذّبانِ بآيّ تلكَ آلائي..). ومفردة (تكذّبان) مفردة قرآنية أيضاً، وظّفها في غاية النّص.وفي ص/ 25: ( وإذْ قالَ ابراهيمُ : ربّي أرني كيفَ تحيي الموتى؟....) وهي من سورة البقرة / الآية 260.وقوله في ص/29: (أوجّهُ وجهي خاشعاً حينما أقرأ البيان..ص/ 26). 

وهناك أقوال لفلاسفة ومفكرين وأعلام في التراث ذكرها بين طيّات نصوصه وثنايا صوره منها ص/29: (كانوا يوزّعون فائض القيمة..)  ويذكرُ (ماركس وهيجل) ، وإشارة في : (ص: 30 الذي هو -أفيون الشعوب-).  وقول الشاعر في ص36/ (أرى خيماً نضجت / وقد حانَ وقتُ قطافها) من خطبة الحجاج ابن يوسف الثقفي. وقوله ( الذين إذا دخلوا قريةً سرقوها/ ص: 31) وهو تناص قرآني في سورة النمل / الآية : 34. وقول الشاعر ( لذلك سأُلدغُ من كلّ جحرٍ مرّتين) .. وغير ما ذكرتُ الكثيرفي التراث والشعر (ياحوتة يامنحوته، والسياب..)، وهكذا يُطيّبُ النّص بتناصات يجعلها مدخلاً صوب صورةٍ أخرى يبتكرها.

 

5/ مرجعيات في التاريخ والأدب: معظم ما نقرأهُ من نصوص ، وخصوصا التي تُمتعنا وأحيانا نشعرُ بثرائها المعرفي، يأتي من التنوّع في المرجعيات نوعياً وكمّيا، وطريقة استخدامها في بنية النّص، لا ليكون زينة، أو محطّ إدعاء أو تباهي، بل أن يجعل ن مرجعياته نصّا جديداً لهُ عالم ولغة وصورة من ابتكار الكاتب نفسه والشكل النّصي مهما كان.

من خلال ما قرأتهُ في المجموعة الشعرية (حلويات) وجدتُ من الغلاف الى الغلاف مرجعيات عديدة تُنبيءُ عن هوية وثقافة الشاعر، وكما قلتُ سابقاً، هي بوصلة المتلقي لتتبع الأثر ، وهي الإضاءة التي نتلمسها للوصول نحو نهاية نفق النّص ودهاليزه. وهذا مانجدهُ في اشاراته (سوفوكليس/ ص: 50)، ( السومريون الأوائل نفخوا الهواء في روحي/ ص: 56)؛ و (سأكتب عشقي لك على رقيمٍ طيني/86) ، (ستغدو الزّقورةُ غرفةَ نومنا..)/ ، ( وما قدْ قيلَ عن (لُبنى) وعن (هند)- 107)، 

و ( أتخيّلُكِ (أنخيدونا) أو (مادونا) لافرق../ 125)،

 

الخاتمة/ مثلما بدأتُ بالتقديم من قراءة العنوان للمجموعة الشعرية( حلويات) وما عكستهُ هذه المفردة في نفسي، إلاّ أني أختلفُ مع المقدمة وأضيف ، بأن هذه الحلويات لم تكنْ تشكّلاً وتنوّعا في الشكل حسب، مثلما أسلفت في أشكال الكتابة (العمودي/ التفعيلة / النثر/ الشعر الشعبي-العامّي) ، بل جاءً تنوّعاً في الصورة والفكر بما تختزنهُ حافظة (الذاكرة/ الميموري) للشاعر، وما إطّلعَ عليه في قراءاته، هذا أولاً، ثم أرادَ أن يوصلَ رسالة بهيّة في التلاحم الثقافي البهي بين القديم والجديد، بين الأصالة والحداثة في الشعر والأدب بأنواعه والثقافة، ليست شعرياً فقط، بل أجادَ في تذكيرنا بأغاني الزمن البجميل ولاقحها بانتقاء أغانٍ (حداثوية) من هذا الزمن، وكذلك أفلام السينما. فهو يربط بين كل هذا بنسيج محكم لا ينفلت عقده، وأجاد في إحالاته التي جعلتنا لا نمل من قراءة نص إذ تجد مع نصه أغنية وفيلم سينمائي وإحالة تاريخية وجولة في التراث يوظّفُها جميعاً في بناء النّص . وهكذا كانت فعلاً (حلويات) و(كشكولاً) يُمثّلُ روح وثقافة صاحبه.



إرسال تعليق

0 تعليقات