جربيني

مشاهدات

 



حسان الحديثي

شاخص من شواخص الجواهري، وإحدى أجمل وأهم قصائده، ذلك انها انبأت عن ولادة لشاعر مُفَلِق حين جمع فيها البلاغة والبساطة، وآلف بين الحكمة والتهكم، وقَرن بين الجد والهزل، ومزج بين الركوز وطيش الشباب، وقد جاء كل ما تقدم بلغة شعرية أخّاذة وهو لم يتعد العشرين.


مدخل القصيدة مباغت غير متوقع استهلها ببيتين فاتنين يخاطب بهما انثى، يقول لها:

جرّبيني منْ قبلِ انْ تزدَريني … وإذا ما ذممتِني فاهجرِيِني

ويَـقـيـناً ستندميـنَ على أنَّكِ … مـن قبـلُ كنتِ لـمْ تعرفيني


لنتخيلْ -قبل كل شي-ان هذه اللغة وهذا الخطاب كان في عام 1920 لشاب يافع من عائلة دينية ابوه معمم وهو معمم، يدرس الفقه واصول الدين في مدرسة اسلامية ويقيم في مدينة دينية محافظة كمدينة النجف لنعرف انه يكسر حواجزَ ويلغي اعتباراتٍ كثيرةً ليكتب ما كتب في قصيدة تُعد من اشهر ما كُتب في "الأدب المفتوح" الأدب المتمرد على البيئة السائدة والطبع العام لحياة المجتمع.

وما ان ينتهي من المستَهل، حتى يبدأ بالتقرّب والتودد لهذه الانثى ومحاولة اقناعها واغرائها انه ليس على ما ترى في وجهه من ملامح الحزن  ويسألها ان تقرأه من عينيه فهما اولى بالتعريف به واصدق بالاخبار عنه، فيقول لها:


لا تقيسي على ملامحِ وجهي … وتقـاطيـعِـه جميـعَ شـؤوني

أنا لـي في الحياةِ طبعٌ رقيقٌ … يتنافى ولونَ وجهي الحزين
قبلكِ اغـتـرَّ مـعـشـرٌ قـرأوني … مـن جـبـيـنٍ مكَّللٍ بالغُـضونٍ
وفريقٌ من وجنتينِ شَحوبين … وقـدْ فاتتِ الجـمـيعَ عُيوني
إقرأيني منها ففيها مطاوي الـ ... نفسِ طُـراً وكـلُّ سـرٍّ دَفين


ثم يعترف بخوفه من العمر والكبر وهو ابن عشرين، وقد صرّحَ بذلك حين قال:

وأنا ابن العشرين مَنْ مرجِعٌ لي … إنْ تقضَّتْ لذاذةَ العشرين؟


وقرأ بعضهم "لذاذةٌ" بالرفع على انها فاعل، والنصب على المفعولية لاسم الفاعل "مُرجِع" أولى لكمال المعنى وتمام المبنى وجمال الفكرة، والتقدير: مَنْ مُرجِعٌ لي لذاذةَ العشرين إنْ تقضَّتْ.

وفي البيت خوفٌ متقدمٌ وقلقٌ مبكرٌ من الشيخوخة والهرم اللذين يقتلان فورة الفتوة ونزق الشباب ثم يوديان بلذتيهما، وهي اشارة لا تخلو من الغرابة حيث لم نقرأ لدى المتقدمين ولا المتأخرين معنى شبيهاً صريحاً بالخشية من الكِبر والضعف في زمن القوة والفتوة.


ومن جمال وعذوبة هذه القصيدة ولطفِها انه يُخبر فتاته انه لا ضمان لها ان طلبته في الآخرة ولن تجده الى جانبها لانها ستغري رضوان بحسنها فيلقيها في الجنة، اما هو فسيُسلك في جهنم مع اشياخه الذي اتبعهم:


فمَنِ الضامنونَ أنَّكِ في الحشرِ … إذا مـا طلَبتِني تجديني؟

فستُغرينَ بـالمحـاسنِ رُضـوانـاً … فيُلقيكِ بين حُورٍ وعين

وأنــا فـي جـهـنَّـمٍ مـعَ أشـيـاخٍ … غـواةٍ بِـغـيَّـهـمْ غمروني


ولا يترك الامر للقاريء في معرفة اشياخه الذين غمروه بغيّهم فيذكرهم ويصرح بهم ويصف حيرته بين الكبار من "البُزلِ القناعيسِ" كأبي العلاء المعري والشاعر العراق جميل صدقي الزهاوي، وهو لما يزل صغيراً بينهم كـ "ابن اللبون"،  فيقول:

ودعيني مُستعرضاً في جحيمي … كـلَّ وجـهٍ مُذمَّـمٍ ملعون
وستُشجينَ إذ ترينَ معَ البُزلِ … القناعيسِ حيرةَ ابن اللبون
عن يساري أعمى المعرَّةِ و الشيخُ الزهاويُّ مقعداً عن يميني


واللطيف ان الزهاوي كان يتنقل على كرسي متحرك في اواخر حياته وحين سمع بهذا البيت قال معقباً: لم يكتفِ هذا الفتى بان جعلني في الجحيم، بل وجعلني مُقعداً فيها.


وقد أخذ الجواهري هذه الكنايات؛ البُزل، والقناعيس، وابن اللبون، من بيت جرير الشهير الذي يتفاخر به على شعراء زمنِه فيقول لهم:

وابنُ اللبونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ

                        لم يستطعْ صولةَ البُزلِ القناعيسِ


والبُزل جمع بازل وهو الجمل الذي بلغ وبَزَلَ نابُه، والقنعاس هو الجمل القوي الضخم، اما ابن اللبون فهو ابن الناقة الصغير الذي لم يبلغِ السنتين من عمره.

وبيت جرير لمَن يهاجيه من شعراء عصره، يقول لهم: من يريد مهاجاتي كان بمنزلة ابن اللبون إذا أطلق مع البازل الضخم من الابل يعني نفسه، لا يستطع مجاراته والصولة معه.

وهذا دليل على ثقافة الجواهري المبكرة وسعة معرفته بتاريخ الادب العربي وحفظة لاشعار المتقدمين كذلك معرفته بالتاريخ العربي، ويضيف في هذه القصيدة فيقول:

بالشفيعِ العُريان استملكي خيرَ … مكـانٍ وأنتِ خـيـرُ مكـيـنِ


ويقصد بالشفيع العريان قصة الفرزدق مع عبدالله بن الزبير حيث خطب رجل من قيس امرأةً اسمها النوار بنت أعين فوكلت الفرزدق لتزويجها، فقال لها الفرزدق: أشهِدي أنك جعلت أمرك لى فإني أخاف أولياءكِ، فأشهدت له فزوَّجها الفرزدق لنفسه، وأشهد الحاضرين، فلم ترض النوار بالزواج فاختصما إلى عبد الله بن الزبير، وكان يومها أميرا على العراق والحجاز.

فتشفعت النوار بخولة بنت منظور بن زبان الفزاري زوجة عبدالله بن الزبير، وتوسط الفرزدق بابنها حمزة بن عبد الله بن الزبير، فتشفعت خولة فشفّعها ابن الزبير وقال للفرزدق لا تقرب النوار حتى تصير إلى البصرة فتحكمان إلى عاملي عليها، فقال الفرزدق معرضا بابن الزبير:

أمّا بِنوه فـلـم يقبلْ شفاعَتَهمُ

                           وشّفعوا بنتَ منظورِ بنِ زَبَّانَا


ليس الشفيعُ الذي يأتِيكَ مُئْتَزراً

                        مثلَ الشفيعِ الذي يأتيك عُرْيَانَا


يقصد ان زوجة عبدالله ابن الزبير تأتيه عريانة فتشفع عنده، فأثار هذا البيت غضب ابن الزبير حتى كاد يقتل الفرزدق لاجله، وتكملة القصة تقول ان النوار قبلت بالفرزدق زوجاً ثم احتالت.عليه وطلقت منه لاحقاً فقال:

ندمت ندامة الكسعي لما ... غدت مني مطلقةً نوارُ

وقد اصبح البيتان مشهورَين سارييَن على ألسِنة الناس.

وبالعودة الى قصيدة جربيني التي يقول عنها الجواهري انها من الأدب المفتوح، يقول في بعض ابياتها:


اِلطمِيني إذا مَجُنتُ فعمداً أتحرَّى المجونَ كي تَلْطمِيني

وإذا ما يدي استطالتْ فمِنْ شَعركِ لُطفاً بخُصلةٍ قيِّديني

ما أشدَّ احتياجةِ الشاعر الحسَّاسِ يوماً لساعةٍ مِن جنون


بعض الشعر هروب من المجتمع وحرية من أسرِه، وقصيدة "جربيني" انفلات إبداعي حقيقي من قيود البيية والمجتمع، والبيت الأخير فيه قراءة حقيقة لاحتياج الشاعر لساعة المجون التي تاخذه وتسلمه الى الجنون لتضعف قدرته على التقييد فتنفلت القصيدة.

إرسال تعليق

0 تعليقات