عبدالباري المالكي
جلست ليلى ذات يوم في غرفتها الخاصة واتكأت على أريكتها كالأميرة ، حيث النافذة مفتوحة على مصراعيها والستائر مرخاة ، وقد كان البدر طالعاً والنجوم جليّات ، وكان النسيم رائعاً ، والجو اجمل من ان يوصف بالجميل ، قامت من أريكتها وتوجهت نحو النافذة وبدأت تنظر يميناً وشمالاً ، وكأنها كانت تنتظرني او على موعد معي ، كانت تراقب العصافيرَ وهي على أشجارها ، والأرانبَ وهي في حديقتها ، وعيناها على مسافة بعيدة من الدرب ، وكأنها تنتظرني .
نعم .. لقد كانت تنتظرني بكل مالديها من روح وجسد ،
و كانت تترقبني بقلب ، بل بألف قلب .
كان نقار الخشب يؤنسها بنقراته السريعة وهي تتزامن مع أصوات البلابل والعصافير وهي تغرد مجتمعة وكأنها في (اوكسترا) موسيقية حقيقية ، حتى أن حركة البط كانت متناسقة جداً وهي تسبح مجموعة في بِركة ماء كانت تطل عليها الشرفة .
استمرت بنظراتها البعيدة أملاً في أن تراني ، أو ترى لي خيالاً من بعيد لكنها عادت خالية الوفاض الى غرفتها ، إذ لا أمل مني أبداً .
اشغلت الموسيقى الهادئة التي طالما استمعنا لها سوياً وأحببناها كثيراً ، وجلست على كرسي خشبي هزاز وهي تستمع الى هذه الموسيقى الجميلة .
تذكرت ليلى تلك الموسيقى الرائعة حين كنا نستمع إليها ذات يوم ونحن نجلس معاً على طاولة صغيرة في أحد المقاهي البغدادية المطلّة على نهر دجلة ، حيث بعض الحشائش الطويلة تحوطنا ، والزهور تلفّنا من كل جانب ، والأغصان تتدلى من هنا وهناك ... ومياه دجلة الهادئة تنساب بخفة وجمال ، ونحن نراقب بعض الزوارق التي كانت تنطلق في مياهه من أدناه الى أقصاه ، والأبلام التي كانت تقلّ الراغبين من الناس بالانتقال من طرف النهر الى الآخر .
كان المنظر أشبه بالخيال منه الى الحقيقة ...
مازالت ليلى تتذكر أننا حينها طلبنا أن نشرب فنجانَي قهوة سادة ، إذْ لم نكن نحبها بالسكر أبداً .
حين جلسنا ، ابتسمت ُ لها وعيناي لا تطرفان ، ولايشبعان من النظر إليها ، قدمت ُ لها القهوة من فنجاني أنا ، فابتسمت ْ هي وقالت إن فنجانها أمامها ولم تشرب منه بعد .
فقلت لها :- أريد أن نشرب معاً أنا وأنت من فنجاني هذا ، ثم نشرب من فنجانكِ أنتِ ليكون مذاقه ذكرى خالدة لنا .
شربت هي من فنجاني ، وطلبت ْ هي ان أشرب من فنجانها أيضاً ، فشربنا ... وضحكنا طويلاً .
كنا نستمع لتلك الموسيقى الهادئة وإيقاعاتها المنسابة على قلوبنا وأرواحنا ، وقد طربنا لنغماتها كثيراً ، فصوت القيثارة رقيق ، وعزف العود شجيّ ، والناي شجِن ، وضربة الدف هادئة ، كل ذلك وسواه كان جميلاً جداً ، كان كل ما في هذه الموسيقى يطربنا بحق ، وكأن أرواحنا تطير مع كل نغمة من نغماتها ، وقلوبنا تتدفق مع كل ضربة من ضرباتها ، كانت تلك الموسيقى أشبه بقارب نجاة لغريق ، فقد كنا نصغي لها وكأنه قد تمّ تأليفها لنا خصيصاً .
تعالت ضحكاتنا وأصواتنا ونحن نتبادل كلمات الحب ، كنت أقرأ لها من قصائدي ما يطربها غزلاً ، وأسمِعها ما يشجنها من حلو الكلام من رسائلي الأدبية التي كنت أوجهها لها باسم (الأميرة النبيلة) ، كانت سعيدة جداً لكل كلمة تسمعها ، بل ولكل حرف فيها .
لقد طلبت ْ هي مني أن أقرأ عليها آخر رسالة بعثتها إليها
بصوتي الأجش ، رغم أنها تؤكد لي أنها قرأتها عدة مرات ، ولا تمل من قراءتها أبداً ، لكنها تحب أن تسمعها بصوتي أنا .
فقرأتها عليها وأنا أمنح كل حرف وكل كلمة فيها حقهما من الوجدان والإحساس بما فيه من الشجن ، والعشق ، بل حتى الإدغام والقلقلة .
(أميرتي النبيلة ...
نعم ... لقد أخطات ُ حين ظننت ُ ذات يوم أنكِ الطريق
إلى الجنة ، فلقد أدركتُ الآن ... أنكِ الجنة نفسها .
والسلام ...)
قالت : - الله ... الله ماأجمل هذه الرسالة بصوتك ..
لم أكن أدركُ جمالها ولا سر معناها إلا بصوتكَ أنت ،
أن أكون أنا الجنة نفسها ، هذا شيء من الجمال لايصدَّق ،
كم أنت رائع وجميل ، وحلو الكلمة .
قلت : - شكراً لكِ يا ليلى ... لا أعرف بماذا أردّ عليكِ يا ليلى . والآن ... انا أحمل لك هدية متواضعة في قيمتها ، كبيرة في معناها .
قالت : - الحق أني لا أبتغي هدايا منكَ ، فأنتَ هديتي من الله ، ويكفيني ذلك ، يكفيني أنكَ معي تعيش كل ساعات يومي ، نهاره وليله .
قلت لها : - أأنا هدية الله إليكِ ياامرأة ؟!
قالت : - نعم ... إنما أنتَ وحي سعادتي الأول والأخير ، أنت من أرضَعني هذه السعادة من قلبه ، وغذّانيها من شفتيه ، وأسقانيها بكل جوارحه .
قلت : - لا أصدق أني أسمع منكِ هذه الكلمات يا فتاتي، فأنا لم أكن أتوقع أني بهذا العلوّ من المرتبة والدرجة الرفيعة عندكِ .
قالت : - بل وأكثر ... أنت أفضل من رأيتُ في أعوام حياتي جميعها .
قلت : - ماذا تقولين ياامراة !؟ أ معقول كلامك هذا ؟!
قالت : - إي والله لم أعثر على مثيل لك في الارض ، ولو عثرت لأخبرتكَ .
وأردفت تخبرني ...
: - أنت نسمة طيبة في حياتي وهوائي الذي أتنفسه ، أنت الرقة بذاتها التي كنت أطلبها من ربي منذ صغري .
قلت لها : - إني أحمل لك هدية بسيطة أرجو أن تقبليها ياابنة قلبي ... إنها زجاجة عطرٍ صغيرة الحجم ، نقية المحتوى ، عبق عطرها ، جميل شكلها ، مميز لونها .
فأخرجتها من حقيبتي وأعطيتها لها هبةً من قلبي العاشق الذي لم يعترف بعشقه لها وإن بدا على قسمات وجهي ، وبان في فلتات لساني ، فتقبلتها وهي مسرورة جداً بهذه الزجاجة العاطرة .
ونحن في تلك الحالة من السعادة ، دخل علينا رجل كبير في السنّ ، في يده اليسرى طاسة صغيرة ، وفي يده اليمنى حصيات سبع ، يرتدي ثوباً يوحي أنه دَرويش ، يحمل على كتفه الصغير كيساً من القماش على شكل حقيبة مسافرٍ يتجول في كل الدنيا ، رأيت ذلك الرجل ، وبدأتُ أخافه جداً ، ولا أدري ما هو السبب؟
إقترب الرجل من طاولتنا شيئاً فشيئاً وعيناه شزرتانِ تخيفاننا ، إقترب كثيراً منا ، ووجه عينيه نحو زجاجة العطر التي أهديتها لها وهي مازالت بيد حبيبتي .
أخذ زجاجة العطر من يديها بسهولة ، ثم رفع فنجانينا الفارغين إلا من قليل من القهوة وقد صبغ قاعدة فنجان كلّ منا ، حملق بهما كثيراً ، وعيناه مفتوحتان لاتطرفان ، تنهد تنهيدة قوية ،
وقال : - ويحكَ ... ماذا فعلت أنتَ ؟
قلت : - وماذا فعلت ُ أيها الدرويش ؟
قال : - لماذا أهديتَها زجاجة العطر ؟
قلت : - وما بها زجاجة العطر ؟
قال : - إنها فأل سيء وعلامة تدل على الفراق سريعاً .
قلت له باستهزاء : - ولكن أيها المعتوه ، سبق وأن أهديتها زجاجة عطرٍ في السنة الماضية .
أتذكرين ذلك يا ليلى ؟
قالت ليلى : - نعم ... ولكني أتذكر أيضاً أننا افترقنا حقاً بعد هدية العطر تلك ، لمدة عام كامل ، بسبب مرض كورونا الذي بسببه حظرت الحكومات التَجوال في كل أنحاء العالم والى الآن .
لم أبهت من كلام الدَّرويش بقدر ما بهتّ ُ من كلام ليلى ، بقيت متسمراً ، خائفاً ، رغم أني لم أبدِ ذلك أمامهما .
قال الدرويش : - أنا أخبركَ بالصدق وليس بما تظنه سفاهة او تنجيماً ، إنه الفراق ، وهو ماينطق به فنجاناكما ...
هو ذا مااقوله لك ... الفراق قدركما ، وعلامته زجاجة العطر التي أهديتَها لها ، وقد كان الأجدر بكَ أن تهديها وردة بيضاء ، أو اي شيء آخر .
ثم عاد لينظر تارة أخرى بفنجانينا وهو يصرخ ...
:- ياللهول ... إن رائحة الفراق تنبعث من فنجانيكما ،
الفراق الذي لا محالة منه والذي لابدّ منه سريعاً .
ثم أردف قائلاً : -
هيا يا ولديَّ ... أطيلا النظر لعينيكما ، لبعضيكما .. كثيراً ، أخبرا قلبيكما بما تخفيانه من عشق ألمّ بكما ، أعلنا حبكما بكل صراحة وجرأة ، فما لكما من الوقت متسع بعد هذا اللقاء ...
وأنتَ ياولدي ... أطِل النظر الى أناقتها ، والزم رقّتها ، وداعب شغاف قلبها بكلام معسول تعوّدته هي منكَ ، وأكثرتَهُ أنت لها في مناسبة أو من دون مناسبة ،
أخبرها بما تضمره بين جوانحك ، وفي كل جوارحك ، من عشق أذاب فؤادك ، وألهب الجمر في كبدك َ ، وأحرق مابين أضلاعكَ ،
فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة لن تلتقيا بعد هذا اليوم أبداً على العشق .
ورحل ذلك الرجل عنا بعيداً وهو يتحسر حسرات كبيرة على رجل وامراة مثلينا ، عاشقين كعصفورين يتناغمان بتغريداتهما المتوافقة ، عاشقين كفراشتين تحلقان سوية في فضاء الرومانسية والغرام دون أن يأبها لكل مايحدث حولهما ويحوطهما من واقع مر ، إنهما أرق اثنين ، وأعظم اثنين ، إنهما نبيل وراهبة ، أمين وقدّيسة ، إنهما بكل معنى الكلمة أجمل قصة حب دارت وانتهت بطرفة عين .
نعم... لقد نظرت ُ لذلك الرجل بكل سخرية ، وأنا أهمس في أذن ليلى بأن ذلك الرجل معتوه بلا ريب ، وأنه لولا سوء حديثه لنا ، ولو لا عبثه معنا بهذه الطريقة لأعطيته من المال ديناراً ،
ولم أكُ أعي أن ما نبأنا به هذا العراف هو حادث لا محالة .
فلقد انفرط العِقد وتناثرت حباته في نفس اليوم ... ويا للعجب.
0 تعليقات