ورحلت ايقونة الشعر والانوثة العراقية

مشاهدات



اعداد / نهاد الحديثي


لميعة عباس عمارة (1929 – 18 حزيران 2021 )  من أولى الشاعرات اللواتي شيدن قصيدة الأنوثة وأضأنها في خريطة الشعر العربي الحديث)؛ شاعرة عراقية محدثة، ورائدة من رواد الشعر العربي الحديث، وتعد إحدى أعمدة الشعر المعاصر في العراق. ولدت في بغداد، وعاشت أغلب أيام غربتها في الولايات المتحدة على أثر هجرتها من العراق 1977 ، وتوفيت هناك. أجادت في الشعر العربي الفصيح والعراقي العامي. حاصلة على وسام الأرز تكريمًا من الدولة اللبنانية لمكانتها الأدبية. وهي ليست من اللواتي عانين كثيرا من شظف العيش، بل كان والدها زهرون عمارة صائغ ذهب وفضة معروفا كما هي حال الكثير من المشتغلين بهذه المهنة من الديانة الصابئية. وكانت أول قصيدة نشرتها عام 1944، وهي لم تتجاوز 15 عاما، فامتدحها صديق والدها الشاعر اللبناني إيليا أبو ماضي الذي كان يعد من أهم شعراء المهجر، وتنبأ لها بمستقبل باهر في عالم الشعر

بدأت الشاعرة كتابة الشعر في وقت مبكر من حياتها منذ أن كانت في الثانية عشرة، وكانت ترسل قصائدها إلى الشاعر المهجري ايليا أبو ماضي الذي كان صديقًا لوالدها، ونشرت لها مجلة السمير أول قصيدة وهي في الرابعة عشر من عمرها وقد عززها ايليا أبو ماضي بنقد وتعليق مع احتلالها الصفحة الأولى من المجلة إذ قال: «إن في العراق مثل هؤلاء الأطفال فعلى أية نهضة شعرية مقبل العراق , كتبت الشعر الفصيح فأجادت فيه كما كتبت الشعر العامي وأجادته كذلك، أحبت الشاعرة لغتها العربية وتخصصت بها ومارست تدريسها فتعصبت لها أكثر دون أن تتنكر للهجتها الدارجة فوجدت نفسها في الأثنين معًا ,, كانت عضوة الهيئة الإدارية لاتحاد الأدباء العراقيين في بغداد (1975–1963)، كذلك عضوة الهيئة الإدارية للمجمع السرياني في بغداد، وهي أيضا نائب الممثل الدائم للعراق في منظمة اليونسكو في باريس (1973–1975)، ومدير الثقافة والفنون / الجامعة التكنولوجية / بغداد,, كانت ترى في اللغة العربية الفصيحة وسيلتها للتواصل مع الآخرين الأوسع، وقد وجدت في لهجتها العراقية العامية ما يقربها من جمهورها المحلي الذي استعذب قصائدها فتحول بعضها إلى أغنيات يرددها الناس. ومن دواوينها الزاوية الخالية وعراقية ولو أنبأني العراف والبعد الأخير,, ومن قصائدها المعروفة قصيدة أنا عراقية بمطلعها لا حيث كتبت هذه القصيدة عندما حاول أحد الشعراء مغازلتها في مهرجان المربد الشعري في العراق حيث قال لها: «أتدخنين.. لا… أتشربين… لا…أترقصين…. لا..ما أنتِ جمع من الـ لا فقالت انا عراقية جَسَدي لا يحتملُ الوَجْدَ ولا أنوي أن أصبحَ رابعةَ العدوية

دواوينها الشعرية / الزاوية الخالية 1960 وعودة الربيع 1963 واغاني عشتار 1969 ويسمونه الحب 1972 ولو أنبأني العراف 1980 والبعد الآخير 1988 وعراقية

كتب عنها الكثيرون باعتبارها أفضل من جسّد الصوت الأنثوي الجريء من جيل الرواد، أمثال السيّاب والبياتي وبلند الحيدري ونازك الملائكة، ومن أوائل من شيّد قصيدة الأنوثة وأضاءها في خريطة الشعر العربي الحديث، واحتفى بثنائية الجسد والروح، تثور وتبوح بالمسكون ,تعد لميعة عباس عمارة من أبرز الشاعرات العراقيات التي زاملت شعراء الحداثة الشعرية العراقية في دار المعلمين العالية في بغداد، مثل بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وابن خالها عبد الرزاق عبد الواحد منتصف خمسينيات القرن الماضي

وكانت لميعة في شبابها جميلة جدا، وكانت زميلة السياب في دار المعلمين العالية، ويقال إنها كانت من الفتيات اللواتي أحبهن في شبابه، وهو يذكرها في مواضع عدة في شعره، من أبرزها قصيدته التي عنوانها “أحبيني لأنّ جميع من أحببت قبلك ما أحبوني !! وآخر ما أهدته قصيدة اسمتها “لعنة التميّز” في بداية التسعينيات، بعد أكثر من ربع قرن على رحيله، وقالت فيها

“يوم أحببتك أغمضت عيوني

لم تكن تعرف ديني

فعرفنا وافترقنا دمعتين

عاشقاً مُتَّ ولم تلمس الأربعين

من ذكرياتها – تقول / دعاني يوما الزعيم الفلسطيني الراحل أبو عمار للجلوس بجانبه في الغرفة الواسعة التي يصطف فيها المدعوون، ودعا الشاعر أمل دنقل للجلوس إلى جانبه الآخر وكأنه يستضيف العراق ومصر، وكان محمود يجلس في الجهة المقابلة لنا.

لم أكن أقصد والله أن أركز نظري على محمود درويش ولكنه كان دائماً أمامي، وأعترف أن لي عيوناً مراوغة تخيل لكل من حولي أنني أنظر إليه، استفدتُ من هذه الميزة أو هذا العيب أثناء مراقبتي الامتحانات، فكل طالبة كانت تتصور أنني أراقبها بالذات، هذا ما تعوّدت أن أسمعه من طالباتي وطلابي

فوجئت بمحمود يصرخ بي ويقول لي بحدّة:

- حاجي تتطلعي فيَّ.

فرد عليه أبو عمار فوراً

- يعني تريدها تتطلّع فيَّ أنا؟

وأبو عمار يضرب أكثر من عصفور بحجر واحد

بعد الاجتياح فارقتهم إلى قبرص، وهم رحلوا إلى تونس ودعاني أبو عمار إلى تونس ضيفةً عزيزة، نزل في الفندق ذاته محمود درويش، سلّمت عليه وكان بصحبته صديق.. دائماً

لم يطل جلوسي لحظة، اعتذرتُ لأغادر، قال محمود

- نحيي فيك خجلك، ونحيي انسحابك

وفي لقاء سريع مثل هذا قال لمن معه وهو يستفزني

- لميعة لو تكتب على باب غرفتها: Please disturb me في المرة الثالثة حين رأيته يجلس في صالة الفندق مع مجموعة ناولته قصاصة غير مهذبة من مسودة أبيات وجدتها بين أوراقي وفيها

إلى محمود درويش

أزح يا حبيبي نظارتيك قليلاً لأُمعن فيك النظر

فما لونُ عينيك؟

هل للغروب تميلان أم لاخضرار الشجر

أُحبهما، تتعرى النجومُ

بغير سحابٍ أريد القمر

فو اللهِ من أجل عينيك محمودُ

أصبحت أعشقً قصر البصر

قرأها محمود بسرعة وناداني قبل أن أغيب: تعالي

قلت: - خير

قال: - لماذا تنادينني (يا حبيبي) وأنت لا تقصدينها؟

قلتً: - هكذا أنادي كل أولادي

وضحك الحاضرون فاشتفيت بمحمود

بعد سنين التقيتُ بمحمود درويش في برلين في مهرجان برلين 2002 محمود الخارج من معركة مع الموت.. وحكى لي كيف قابل الموت وجهاً لوجه وكيف غلبه.. في اليوم الأول من لقاء برلين ألقى محمود درويش قصيدة كمن يروي قصة من ألف ليلة جديدة وكان هادئاً بلا ضجيج ولا صراخ، قصيدة من أجمل وأغرب ما يرد على خاطر بشر، أوحتها حادثة محزنة كالعادة امرأة حامل تقتل برصاص الجنود الصهاينة

تتابع ما يأخذك محمود درويش إليه في هذه القصة التي تجسد كل المعاني السامية في الإنسانية وهو يخاطب الجندي القاتل وتتصاعد الأحداث التي لم تحدث ولن.. بعيداً عن فوضى الحماس وتتصاعد معها قصة شهرزاد. سلام لمحمود درويش.. ومتعه الله بالصحة

قال عنها الرئيس العراقي برهم صالح إن "الراحلة زرعت ذاكرتنا قصائد وإبداعا أدبيا ومواقف وطنية، حيث شكّلت عمارة علامة فارقة في الثقافة العراقية، في العامية والفصحى" استطاعت أن تكرّس صوتها الأنثوي الخاص الذي يُعدُّ سابقة تتسم بالجرأة ووضوح الرؤية في المشهد الشعري العربي"، ويشير إلى أنها وبجرأتها تمكنت من "ولوج مناطق في مشاعر الأنثى لم يكن الدخول إليها أمرًا مألوفًا من قبل". وعن قدرتها على صياغة مشاعر الأنثى ومخالفة التابوهات، يقول إنها "لم تكن تضع خطوطا حمراء أمام التعبير عن مشاعر المرأة المختلفة

ونعى وزير الثقافة والسياحة والآثار العراقي حسن ناظم الشاعرة الراحلة، وقال إنها "تميزت بشاعريتها الشفافة، وعاطفتها الجياشة وحبها العظيم لوطنها وناسها، رغم ابتعادها القسري الطويل عن الوطن" كما نعى الاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق الشاعرة القديرة لميعة عباس عمارة، وقال في بيان "وداعًا أيتها الصوت النابض بالحياة والإنسانية، ستظل قصائدك تطير بجناحين من ورد وندى.. فقدانك يمثّل حزنًا ضاربًا في أنساغ القلب، ودمعةً مؤلمة"

رحمك الله , رحيلك فاجعة


إرسال تعليق

0 تعليقات