الاغتصاب الفكري الذي حول الإيديولوجيا إلى دينا سماويا؟

مشاهدات




بقلم: الكاتب والباحث السياسي

الدكتور: أنمار نزار الدروبي


 هناك من عرَّف الأيديولوجيا، بوصفها نسقاً من المعتقدات والمفاهيم، والأفكار الواقعية والمعيارية معا. ويسعى هذا النسق في عمومه إلى تفسير الظواهر من خلال منظور يوجه ويبسط الاختيارات السياسية والاجتماعية للأفراد والجماعات. ويوضح هذا التعريف الدلالات الحيادية للأيديولوجيا، التي اكتسبها المفهوم من تعدد الأنساق الفكرية التي عملت على إظهار مدى التوازن بين الجانبين الواقعي والمعياري، بوصفهما يمثلان مقومات الأيديولوجيا.

المسألة التي نحن بصددها هي الإرادة، إمكانية العقل على الفعل والتأثير أبعد من حدود قواه الماديّة. صناعة المعجزة، بمعنى التحكم في مقدرات العالم وتسخيره. وأين هو السّر، ما هو الحقيقي الذي يعجز المنطق عن تفسيره أو تعليله، الى أي غاية تسير حياتنا ووجودنا، أسئلة لا حدود لها. لكن الأهم في مجمل الأسئلة هو من يدير كل شيء ويحكم ويتحكم بالعقول. من هنا يبدر

السؤال: كيف تحولت الأيديولوجيا إلى دينا سماويا؟

تُعدّ الأسباب الفكريّة من الدوافع المؤثرة في تصعيد العنف، فالأفكار والمعتقدات التي يلتزم بها الأفراد والجماعات في مختلف مستوياتهم (الأيديولوجيا)، سواء كانوا على مستوى السلطة أو الأشخاص العاديين تنعكس على مسألة العنف. فبسبب خلفيتهم المتعصبة والمتطرفة قد يلجئون إلى ممارسة العنف. وبهذا الصدد يقول المفكر الفرنسيّ روجيه جارودي" إن المتعصبين لمعتقداتهم وأفكارهم اليوم، سواء كانوا التكنوقراطين، أو الستالينين، أو المسيحيين، أو اليهود أو المسلمين، يشكلون جميعاً أكبر المخاطر على المستقبل، وهذا هو التعصب السلفيّ، وهي عقيدة دينية أو سياسيّة أو غير ذلك في الشكل والإطار الثقافيّ أو الذاتيّ".

من هنا فإن هذا الجدل التاريخي بإشكاليته المتداخلة، انعكس بالسلب في عالمنا اليوم. وأصبح الأمر لا يتعلق بأيديولوجية ضيقة، ولا حتى بالأزمة الحالية بين الغرب والشرق (المسيحية والإسلام) ولا بالصراع بين الشيعة والسُنة، ولا بالخلاف القومي بين العرب والكرد، وإنما صدام ينبغي مكافحته، وإنهاء كل هذه المسميات العقائدية التي باتت في حكم الرسالات السماوية، بيد أن كل هذه المسميات تعبر عن أيديولوجيات ومعتقدات مذهبية، تسعى كل جماعة إلى فرضها بالقوة والعنف. وبالتالي فنحن أمام حالة من التمزق والتناحر في هذه المجتمعات.

إن الاغتصاب الفكري ليس ظاهرة جديدة خاصةً في العالم المعاصر، بل هي ظاهرة قديمة قِدم العالم الذي نعيش فيه، بل هي الفكرة التي تنتشر في الثقافة الغربيّة منذ القدم، وجوهر هذه الفكرة الرائجة بأن الدين يسبب العنف، وإذا لم يكن الدين سبباً للعنف فإنه على الأقل عامل يُسهم في العديد من الصراعات في التاريخ الإنسانيّ، وبحسب رأيهم فإن جُل فكرة الغرب هذه اتجاه الدين تأتي بسبب العديد من الصراعات والحروب الدمويّة في التاريخ القديم منذ الحرب المقدسة والحملات الصليبية، ومحاكم التفتيش. لهذا نجد العالم بأسره محاطاً واقعيًّا بظاهرة الاغتصاب الفكري بل غارق فيها. لقد تمكنت هذه الظاهرة من أن تفرض نفسها موضوعيّا في الخطاب اليوميّ لعصرنا الراهن، وانتشرت في كل مظاهر حياتنا، حيث أصبحت العلاقات بين المجتمعات والشعوب علاقات عنيفة وعدوانية تتجسد في شكل حروب وحشية متواصلة وقاسية، يمارس فيها الاضطهاد الأيديولوجيّ.

   وحتى نرفع هذا الالتباس ونفهم هذا التناقض، لا بد أن نقف عند خلفيات أصحاب الأيديولوجيات وتحديدا (الجماعات الدينية) التي حولت أفكارها إلى دينا سماويا. ويقوم هذا الطرح على مغالطات كبرى حفظتها الذاكرة الجمعية، وتناقلتها الأجيال دون تمحيصها ومراجعتها. فالاغتصاب الفكري هو الذي أودى بأرواح الناس وكرامتهم، وهدد سبل الاستقرار والأمان والعيش المشترك، والاغتصاب الفكري هو السبب في تفجير المساجد وتدمير العمران والآثار وتقتل الناس، وذبح الأبرياء وحرقهم أحياء.

بالمقابل أنا لا أبرئ أو أنزه الاغتصاب الفكري الذي يكون خارج حدود وفلسفة الدين، بمعنى (العنف غير الدينيّ) فالعنف غير الديني أعمق وأكثر إضرارا على البشريّة من العنف الممارس تحت راية الاغتصاب الفكري الديني، فإذا كانت كثير من الحروب خيضت لأسباب ودوافع دينية سواء كانت حرب المائة عام أو أكثر منها أو أقل، فإنه يكفينا الإشارة إلى الحرب العالميّتين اللتين خيضتا دون أن يكون لأي دين فيها راية أو سبب.

لكننا نلحظ أن مشكلة الاغتصاب الفكري جاءت" كردة على الثورة الأخلاقيّة التي أسست لها الديانات السماوية، وأطلقها الإسلام من أسر الجاهلية، وزرع قيم الأخوة والرحمة والعدالة لتصبح الأخلاق جزءا لا يتجزأ من حياة الفرد. وكذلك هي ردة ضد الثورة المعرفية التي مجدت العقل، وجعلت حياة الناس وتجارِبهم عقلانيةً ومعقولةً، وردة ضد الثورة الحقوقية التي أتت بعد قرون من التناحر والتقاتل والظلم، ولا سيما داخل الغرب أو من خلاله، ثورة حقوقية عبّرت عن شرائعَ وقوانينَ كان لها اليد الطولى في تكريس حقوق الشعوب في الحرية والكرامة والاستقلال وتقرير المصير. وبهذا نرى أن حركات العنف التكفيريّ هي على طرف نقيض من ذلك، فمنطقها الأخلاقيّ المتهافت يتناقض مع الجوهر الأخلاقيّ للوحي الإلهيّ، وخطابها السياسيّ اللاعقلانيّ واللامعقول يخرق كل المواثيق والعهود الإنسانيّة في نزعة دنيوية معادية للحضارة والنجاح والتقدم". (من كتاب جماعات العنف التكفيري، الجذور، البنى، العوامل المؤثرة، ص11ص12).

لكن في النتيجة: أن السبب أو التحدي الأساسيّ الذي أدى تفاقم قضية الاغتصاب الفكري، هو تولد إحساس عام مشترك لدى أصاحب هذا الاتجاه بوجود أزمة تهدد الإسلام.

 


إرسال تعليق

0 تعليقات