غدا لصانعه قريب

مشاهدات



عبد الرازق أحمد الشاعر


كُتب على كل مدينة حظها من الخوف، ومن الجوع والمرض والموت .. لكن غزة هي المدينة الوحيدة التي قررت أن تتجرع كل هذه الويلات غصة واحدة، علها تنجو من طاعون البلادة الذي اجتاح كافة المدن حولها. وحدها غزة تستيقظ كل فجر على تكبير المدافع وتهليل الهاون وتسبيح الطائرات ورائحة الموت المنبعث من الأسرة والشراشف والجثث المحترقة، لتغتسل بدماء شهدائها وتحمل سجادتها وتكبر للصلاة. 

لو قدّر لغزة أن تختار، فهل كانت ستبني قبة حديدية لمنع الوهن من التسلل إلى نفوس أبنائها، والوقوف في وجه الرعب العابر للقلوب الحاقدة حتى لا يجتاز أسلاكها الشائكة، فيضرب أكباد أطفالها في الصميم؟ هل تراها كانت ستكتفي بصنع الكعك وصلاة العيد في الخلاء؟ هل كانت ستكتفي بالحوقلة ودعاء القنوت في الليالي الوترية من رمضان؟

ألم يكن بمقدور غزة أن تغمض عينيها قليلا حتى لا ترى المقدسات تدنس والأعراض تنتهك؟ كيف تخلت غزة عن دفء الفراش ومشاهدة المسلسلات ومتابعة الكاميرا الخفية، وكيف ضحت بمتعة التواصل عبر الانترنت لتخرج وحدها في عراء الأزمنة تدافع عن التاريخ؟ كيف وثقت غزة بأقدامها وهي تغوص في محيط رملي من التخاذل والتطبيع والهوان؟

كيف استطاعت غزة أن ترفع رأسها في وجه الطاغوت الكوني وهي لا تتجاوز 365 كيلومترا من اللحوم البشرية المتلاصقة؟ وكيف ضحت بجماجم ساكنيها لتدافع عن قدس فشلت في الدفاع عنه عشرات الجيوش على مدار العقود؟ هل قامرت غزة بلحم نسائها وجماجم أطفالها وسيقان شبابها ورعشات شيوخها، لتلقي بذلك كله في أتون الاحتلال المدجج بالسلاح والعتاد لتصنع مجدا زائفا كما يقول المرجفون في كثير من المدن؟ أم أن مقاومي غزة أعدوا للموقعة عدتها من قوة ومن دانات المدافع ليرهبوا به عدو الله وعدوهم؟ 

يخيل إلىّ أن فرسان غزة لم يناموا قبل المعركة بسنوات، وأنهم بعد أن نفضوا أيديهم من رفاق الأمس وجلسات التفاوض والشجب، قرروا أن يجعلوا شمس الحق تشرق من مغربِهم الضيق، وانتصروا.  

لم يكترث أهل غزة لمن خالفهم، ولم ينتظروا دعما من مجلس أمن أو من جامعة عربية أو إسلامية، ولم يستغيثوا بأحد رغم كثرة التصدعات في بنيانهم الوجودي لأنهم وثقوا بوعد الله، فصدقوا ما عاهدوا الله عليه. 

المعادلة لا تحسمها حجم الرؤوس العابرة للحدود، بل حجم الرؤوس المخلصة التي تعمل ليل نهار من أجل قضيتها العادلة. لم تمت غزة، ولسوف يحيي الله ما مات منها على أيدي من ساموها الخسف والقهر سنوات طوال. انتصرت غزة رغم عشرات الجثث المتفحمة ومئات المعاقين وآلاف الجرحى، وربما انتصرت لكل ذلك. انتصرت على ما تهدم فيها، واستعادت ثقتها بأذرعها الطويلة رغم كل معاول الخوف التي أرادت النيل من كبريائها ودفنها تحت أنقاض التطبيع. وانتصرت غزة لتعلن عن ميلاد جديد لشرق أوسط مختلف، يتنفس الناس فيه بحرية ويمارسون شعائرهم دون خوف. انتصرت غزة لأنها كسرت قدم الطاغوت وأذلت كبرياءه حتى طلب إيقاف الحرب من طرف واحد. انتصرت غزة على مخاوف العرب وقعودهم غير المبرر سنوات عجاف. فهل وصلت رسالة غزة إلى بقية المدن الخائفة؟ 

يحكى أن أهل قرية كانوا يخشون ماردا ويهابونه، وكلما اقترب من نواديهم، فروا على أعقابهم. حتى قال أشجعهم: لماذا لا نتربص للمارد ونقتله؟ فلما هزأوا منه، تربص للمارد وحده، وقذفه برمحه أخمص بطنه. فلما سقط المارد، ناداهم أن هلموا، فقد قتلت المارد بيدي هاتين. حينها خاف الناس، وقالوا: طالما أنه قتل المارد، فهو أحق بالخشية منه. عندها صاح الشاب قائلا: حين بقرت بطن المارد لم أجد أثرا للخوف هناك. الخوف في قلوبكم أنتم. أنتم من تصنعون العجول المقدسة وتعبدونها من دون الله. 

بالفجر أذّنت غزة، فهل يقيم العرب الصلاة خلفها، أم يتمترسون خلف قببهم الحديدية خوفا من صواريخها البدائية وعزيمتها الفولاذية؟ وهل يستمرون في دفن رؤوسهم وجيوشهم في التراب بعد أن رأوا ضعف المارد وهوانه على أطفال غزة ونسائها؟ وأخيرا، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور

إرسال تعليق

0 تعليقات