حديث العراق /الى بغداد

مشاهدات




حسان الحديثي


كان جو أربيل لطيفاً دافئاً ونحن نودعها وقد توقعته بارداً ربما لأني قادم من قسوة برد لندن فنحن في الخامس والعشرين من شهر يناير وهو شهر البرد في العراق عموماً ونحن في ساعات البرد الحقيقة في ساعات الفجر وبيننا وبين شروق الشمس ثلاث ساعات 

حين بدأنا نودع أضواء أربيل جنوباً تنامى بي شعور بالتعب واحساس بثقل في جسدي، انها وعثاء السفر التي قرأنا عنها انه تعب الرحلة ومشقتها، ولكن هل بقي للسفر وعثاء في أزماننا؟ وقد تيسر السفر بمتن طائرة او على كرسي مريح في سيارة؟ 

لقد كانت الوعثاء حين كان يطوي الراكبُ الارضَ على ظهر دابته يرفعُه حَزْنُها وتلُّها ويحطُّه واديها وسهلُها غير أن لكل سفر وعثاؤه؛ ان كان على ظهر بعير او على مقعد طائرة او كرسي سيارة، هذه حقيقة، كنت افكر بمفردة "وعثاء" ومن اين أتت وما تصريفها حين غلبني النعاس فأسلمت نفسي لسلطان النوم العظيم.

لم أنم طويلاً فقد أفقتُ بعد قليل مذهولاً على مطبات في الطريق تجعل سيارتنا تسير قلقة مرتبكةً وكأننا نمشي في ارض جبلية حين أخذتنا وجهتنا الى طريق مليء بالانحرافات والالتواءات ، طريق خددتْ وجه سيارات الحمل الثقيلة وحفرت به عجلاتُها سواقياً كتلك التي يصنعها الفلاح في الحقول والبساتين، ومع ذلك كان حيدر -وهو اسم سائقي- يسير بما تمكنُه سيارتُه من سرعة غير آبهٍ بخطورة الطريق او

مراع لقلقي واستيائي وانا متيبسٌ على مقعدي أتحسس حزام الأمان الذي شددته لحظة انطلاقنا وقد آمنت به في السيارة بعد أن تهكمت عليه في الطائرة.

وكلما نبّهت حيدر أن سرعته عالية لا تتناسب والدرب، خفف قليلاً ثم عاد لسرعته وكأنه يحاول ان يرضي رغبتي ولكن لثوان ثم يعود لعادته وطبعه فمنعني جنونُه من النوم والراحة بل لم اشعر بالهدوء والسكينة طيلة تلك السفرة ولم يرحني بتلك الرحلة القلقة الا اشرافُنا على بغداد التي وصلناها في التاسعة صباحاً بعد خمس ساعات من الترقب والانتباه والشد العصبي وكأني انا من يمسك مقود السيارة وحيدر من يضغط على دواسة البنزين. 

أنستْني رؤيةُ بغداد حيدرَ وسيارتَه أول الأمر وأثارت في نفسي مزيجاً من الحزن والفرح والشوق والأسى هذه المدينة التي ان اسهبتُ في وصفها فلن تسعني القراطيس والدفاتر ولا الأقلام والمحابر ولعلي استطيع أن أجملها بسطر واحد: إنها مدينة تجمع الخيال والواقع، سرُّها يكمن في كثرة المتكسرين على أعتابها من العشاق حباً ومن الأوغاد عدواناً.

كان وقتُ وصولنا يوم الاثنين في ذروة الزحمة الصباحية وكنت الحظ حيدر وهو يشقُّ طريقَه بسيارته الامريكية الصنع ذات الدفع الرباعي بدراية وحنكة فهو يراوغ ويتسلل بين سيول السيارات حيناً كفعل دييغو مارادونا فيمن حوله من اللاعبين في الساحة الخضراء، و يدخلني في أزقة ودروب ما كنت لأراها لولاه، ثم يُعرّج بي حيناً آخر بين حقول ومزارع عابراً بنا سدةً طينيةً تكاد تنزلق من جنباتها عجلات سيارته لضيقها او سائراً بنا عكس الاتجاه بسرعة اقل ما يقال عنها انها نوع من الخطل وضرب من الخبل، آمنت حينها ان قيادة السيارة في بغداد تحتاج رخصة وامتحان خاصين بها ومن لا يعرف طرقات وطبيعة السياقة هنا فسيكون وصوله هو المستحيل بعينه ولن يستمر لاكثر من عشر دقائق ليركن سيارته ويستسلم، حتى اني عذرت سائقي على كل تهوراته وجنونه حين أوصلني الى محطتي الأخيرة بل وزدت له اجرته شكراناً مني وعرفانا بتفوقه على نفسه في ذلك الصباح البغدادي المشمس. 

نعم كان صباحاً دافئاً مشمساً رأيت اعمدة الضياء فيه وهي تتكسر على امواج دجلة،  ليس لدي شك ان الشمس اجمل من الضباب سواء كانت في بلادي او في غيرها فهذا امر بديهي، ولكن العظمة كل العظمة ان يكون الظلام في بلادك اجمل من شموس الارض كلها بعد أن تؤمن ان مرَّه حلوُ المذاق وماءه شفاءٌ وترياق. 

الوطن شعور آخر واحساس مختلف فهو الذاكرة الآمنة للطفولة والنهاية المطمئنة للشيخوخة والكهولة ، ما قيمة وطن لم تعش فيه طفولتك؟ كيف ستحبُ وطناً لم تعفرْك أطيانُه ولم تغسلْك غدرانُه ولم تخبئْك اركانُه وحيطانُه؟ آمنت ان لا وطن بلا طفولة، لاجل ذلك نحن نعذر من عاش طفولته بعيداً عن وطنه ان يحس به كما يحس به من ترعرع فيه، فالاول لم تحلق روحه بفضائه ولم تمتلئ رئته بهوائه ولم تختلط دماؤه بمائه، ولا يؤثر على حب الاوطان حالُها ولا ما يؤول اليه مآلهُا فالأوطان تُصاب وتمرض كابن آدم وامراضُها تتباين وتختلف كابن آدم ايضاً وربما أعياها السقم وأوهنها المرض، ولكنها لا تموت، الأوطان خالدةٌ لا تموت وهذا سبب ثان يجعلنا نلتصق بها ونتلبس تاريخها وجغرافيتها بل ونذهب ابعد من ذلك فنرجو ان ندفن فيها كي نخلد بمعيتها العظيمة، الم تر كثيراً من أبنائها وهم يرحلون عنها اول العمر يعودون اليها آخره، يغادرونها وهم خفاف ويعودون اليها محمولين على الاكتاف. 

هذه ليست فلسفةَ غريبٍ في غربتِه، ولا هذيان حبيب لحبيبته، ولا مزايدة في حب الاوطان، ولا درساً في وطأة البعد على الانسان، انه شعور البارّين من الابناء، ممن تسري بهم دماء الانتساب والانتماء.

يتبع

إرسال تعليق

0 تعليقات