التصوف في شعر الغرابي ..

مشاهدات



الناقد عبدالباري المالكي 


   شاعرنا عادل الغرابي هو ممن يشعر بجوهر الأشياء وليس ممن يحصي أشكالها فقط لأنه يشعر أن من واجبه أن يبين الشيء للقارئ ما هو وليس ما لونه وشكله , وهو بذلك يكشف عن لبّه وحقيقته .


وشاعرنا يعلم أن غاية القارئ أن يتعاطف مع القصيدة بتلك الأحاسيس القوية وأن تستطيب له مضامينها التي وظفها الشاعر فيها .


ولو شئنا أن نقف عند براعة الغرابي وقدرته على افتتان المتلقي لوجدنا فيها    صدق الإيحاء وحقيقة التصريح وسعة الهيام وهو أجل صور عالم التصوف الذي ينتمي إليه شاعرنا ذهاباً وإياباً في كل مكان ومقصد فلا يرى في قلبه إلا التصوف الذي يجري فيه نهر من عشق لمدىً بعيد , اذ يقول في قصيدته 


(ثمانية العشق ) :-


( لا تسألوا قلبي الصوفي كيف جرى     نهراً من العشق واستعلى المدى قمراً )


 فميدانه العلوي إنما هو ميدان البقاء وله أثر فاعل في إنارة كل العوالم وإذكائها فهو ينصف العشاق الهائمين ويصون حقوقهم في طهارة قلب نقيّ مغسول من كلّ درن .


وشاعرنا هنا استطاع أن يطبع في وجدان قارئه وفكره صورة واضحة عن ذاته , فكان الابداع في تشبيه قلبه الصوفي بأنه سماوي والمعراج ديدنه وأن العالم العلوي هو مداه المتسع ونفاذه إلى صميم الأشياء حتّى آنست بناره النفوس تواقةً إلى رؤيتها وسماع صوت لهيبها واستيعاب حرارتها لأنها تزيد الحياة حياة كما تزيد المرآة النور نوراً , فالمرآة تعكس على البصر ما يضيء عليها من الشعاع فتضاعف سطوعه , والشعور يعكس على الوجدان ما يصفه فيزيد الموصوف وجوداً , ويزيد الوجدان احساساً بوجوده , فالمحك الحقيقي هو ذلك الذي يرجع الى مصدر أعمق من الحواس فتلمح من وراء الحواس شعوراً حياً ووجداناً يضفيان على المحسوسات كما تضفي الاغذية على الدم , فهو يرى أن نغمات الزهر يغذي العطر وأن مفاتح الغيب تغذي رؤاه لأبعد مدى ممكن وأن حواسه الهائمة ومداركه النابتة في عالم التصوف هي ما جعلت وجوده محض نافلة لن يفهمها الآخرون . 


وهو الذي تزود العشق منه كل احجية وتجاوز حدود البشرية في مظهرها الضيق إلى حدود الملائكة في مظهرها القريب , حتّى اذاعت معشوقته سرَّه الذي يشمّ فيه ريحه عن بعد حتى تسكر من طيبها , وهو الذي ابيضت عيناها حزناً فيه حتّى عميتا وفي رسالتها (العشرون) تقول معشوقته فيه :-


     ( أشم ريحك عن بعد فيثملني     من طيبها عبق الوسنان عن صبري )


فما لا مراء فيه أن عاشقة الغرابي كانت صادقة النية في هيامها له وفي برّها  وعدَها له , في كلّ بيت وكلّ شطر , حتّى أن القارئ ليغتبط كثيراً لما فيها من معانٍ دقيقة ونكات أنيقة تشعره بالرضا والفرح والهوى , وتلك هي النعمة السابغة للقارئ , وهي بنفس الوقت المنيّة العاجلة للغرابي ومعشوقته في سنن العشق كمن يحزن على من غرست يده زهراً وجنى منها ثمراً ونبتت رغم نعمتها , فيضيق بهما الخيال الفسيح .


ولا بد من التضحية كي لا يبوء أحدهما بإثم الصدّ محتطباً وزره على الرغم من نضوب الدمع من عينيهما  , فترى معشوقته في بعده عنها حزناً تكابده منذ سنين وهي في كلّ سنة إنما تختنق من الوطأة عليها ومن الكمد الذي يزلزل فؤادها , فلا فضاء يسعها ولا أرض تحويها , وكأنها ساخت بها  .


وهي لا ترى منجىً من تلك العلّة إلا قميصه يرسله إليها باقتناع أنه يعيد النور في عينيها وهو ليس تفسيراً أو تقوّلاً من عندياتها  كي تُتّهَم بالكذب كما هو ديدن الشعراء والنظّامين , ولا خيالاً يأتي به وحي الشعر من (وادي عبقر) وإنما هو العشق العذري الذي لا تسمية له إلا التصوف الذي لا يذكر الشاعر فيه زهره أو ثمره إلا وذكر (ليلاه) فيها ولا  لاح له غضبه إلا ورأى رضاً في ليلاه ,  ولا لهواً أو بلوىً إلا وقد استشفّ فرحاً أو بكاءً من ليلاه .


إنه يذكرها في يقظته ونومه , وهو في كلّ ذلك يرى إنها تلك النعمة السابغة لقلبه والمنية العاجلة لجسده .


  إننا حين نقف عند شاعرنا الغرابي فإننا لا نكتفي عند حد للتبيان عن براعته وبيانه , وذلك ليس بالقول الهزل , وبل هو الذوق السليم والوصف الصادق والخيال الصحيح والشعور القوي , فهو في فنّه أضحى على مذبح تصوّفه , فما تأوّهَ ولا صرخ , ولا لمّح للناقد أو القارئ في شعره امتعاضة حزن أو مسحة أسىً لعشقه إلا كان كلّ ذلك صحيحاً ورؤى نقية , فلم تخنه القريحة ولم يخذله الاختراع ولم يمنعه شيء حتّى يخرج عن تلك الوتيرة التي عرفناها فيه , فهو إن كان له فضل في شعرهِ فإنه قدرة المحاكاة وشيمة الامتياز ليدرك التتمة الصالحة في نفسه من كلّ فرصة تلوح له فتستحسنه النفوس وتتقرب له الأذواق .


ولأنها أدمنت عشقه بشكل لا ارادي فإنَ ذلك العشق قد صار جزءًا لا يتجزأ منها, 


إذ اصطنعته نافلة تشاكس ليلها وتحوم بوحيها أذكاراً وأوراداً حولها حتّى أنها لا تعلم الأسباب الخفية وراء اتخاذها له موّالاً يهدهدها  , وظنوناً تداهم مخيلتها بألوان الكبت والقهر دون أن تطيق كظم عشقها الذي تحول فيما بعد إلى جزع مذموم , فما أدمعها إلا رسالة شكوى , وما قافيتها إلا رسالة وجع , وما تلك إلا أصداء تجاوبها حينا وتشيح عنها أحايين أخرى وهي بين هذه وتلك ، تعيش عطش فكرها وروحها  الذي تراهن على حضنه أنه العقار الذي لابد منه لينجيها من تجربة غرام قاسٍ يودي بها إلى موت محتوم .


         (  قاسٍ غرامك لم أزدد بصحبته    سوى اكتهال بقايا العمر بالوزرِ)


وتلك التجربة لم تأخذ بها إلى حكمة تركِ معشوقها الذي لم تزدد بصحبته سوى الموت البطيء , بل راحت تناجيه عن بعد , وتناغيه عن قرب ,  فما غفا لها جفن ذات يوم , ولم تقرّ لها  عين إلا وهو يزين أحلامها ويسليها بوصال لطالما  كان آملاً في سعادة لا تنتهي , وهي بذلك لا تقف عند عواطف إلا كانت عميقة ولا خوالج إلا كانت مريرة , ولا تلبّسَها سلطان النعاس إلا واتشحت بالوجدان , ولا باشرت باصطبار إلا نفد حينه , وكأن الحياة قد توقفت عند زهده الذي لم يرعً لها حرمة للعشق ولا اعترف بأغلال الهيام التي طوقت قلبها :-


           (  فيا أيها الصوفي حسبك أنني      جروح بأغلال الهيام تصفّدُ )


ولعل شاعرنا قد لامست رسائلُها قلبَه وكشفت عن روحه فراح يخاطبها بكلّ ما يفرضه عليه واجب العشق والهيام , فيقول :-


            ( لا تعتبي ليلى عتابك قاتلهْ       ولتتركيه تضجّ فيه مشاكلهْ )


   فهو غير قادر على العتاب لسببين اثنين , أولهما أنه ناشد غيماته بعد تصحره هو لكنها امتنعت عن اجابته , وثانيهما أنه يملك حظّاً ذا منزلة دونٍ , فلا يشيع في نفسه إلا تراكم الخيبات من زرع ٍ ذبلَ عطشاً ومن فسائلَ ضاعت موتاً , وتلكما صورتان لهما خصوصيتان في ذات الشاعر لأنه يثير تساؤلاً أعمّ من الوجدان في مأساته التي يحاول أن يعبر عنها لليلاه في هذا البعد والزهد الذي تظنّه هي فيكفيه أنَ عواذله قد اجتمعوا عليه طالبا منها العذر بأسلوب هو أعمق من دلالة الشعور بضياع  الذات حتّى أنَّه لا يبصر إلا ما يدور حوله كونه يعيش الضجيج النفسي والجسدي القاتل عازياً كلّ ذلك للموت البطيء الذي يطلبه ويحاول استدراجه بأيّة وسيلة ممكنة, وتلك هي الحرفة الشعرية للغرابي القادر على اضفاء مشاعره بشجى حزين وطرب مترنم وتعبير أصدق ما يجعله قادر على تجسيم مشاعره تلك إلى عناصر ناجحة في قصيدته ، وهو أولاً وآخراً يعترف أن ليلاه هي تلك التي لا سواها  في الكون لسبب يراه عميق التأثير فيه وكثير التأثر به وهو أنَ ضحكتها أوقع على نفسه وأعمق , فذاته وضحكتها متلازمتان طيفاً وسنىً رغم علو شأنيتها , فلواعجه قد أثارت فيه مواجع حبلى , فهو يقول في لغة لا يعرفها إلا المتصوفة :-  


                    ( كلٌّ يقول أنا إلا أنا فأنا ..... )


فبهذه المعادلة الصعبة يبدأ شاعرنا بالاسترسال ليضرب على وقع النغمة التي تعيش بدمه وعروقه :-


                    ( ...... ما قلت إلاك يا أنت الذي بدمي )


ويمزج بين كلّ ألوان الشعور القريبة عند المتلقي , ذلكم الشعور الذي يضفي على شاعر مفطور يعيش خلجات السرائر وهمسات الضمير الذي لا تخفت فيه العواطف ولا تلتبس عليه ألوانها .


فهو ممن يميز بين خطرات الإحساس المتواشجة والمتنوعة وما تحسّه النفس في أبهج أو أسوأ ساعات الحياة ، إذ نجده قد أجهد نفسه في حبّه لحبيبته وهي أعجوبة القدر عند شاعرنا وهي مما يعلل به آلامه وسنيّه التي بدأت تنفرط من عقدها كما تنفرط حبات الرمان وقد توالت عليه الأحزان , فلوّثت جسده بالأسقام اللازبة , أعقبها ضعف ونحول حتّى كاد أنْ يهرب من حقيقته لولا حبيبته التي أعادته إلينا وهو ممزوج بتنهداتها فلا يروق له إلّاها ,  فهي أيقونة اللحن والايقاع والسلوى الصادقة والجدّ لا الهزل والخلُق الثابت الذي كان ديدناً عنده رغم أنها لم تسعفه من سقمه الذي ألمّ به .


إرسال تعليق

0 تعليقات