كرم نعمة
تعرضنا لـ"الضرب" من الشركات التكنولوجية العملاقة في عقود الاستخدام المبرمة معها إلى درجة بتنا نتقبل هذا الضرب، فشروط الخدمة مكتوبة بطريقة تثبط الناس عن قراءتها.
شركات التكنولوجيا برعت في إدخال مصطلحات تفيدها على حساب المستخدمين
نرتبط بعلاقة غير عادلة في العقد الذي نبرمه مع الشركات التكنولوجية الكبرى، في حقيقة الأمر مفردة “علاقة” لا تعبر عن طبيعة العقد وغير جديرة بالوفاء، لأن واقع الحال هو خضوعنا التام لشروط تفرض علينا ونوافق عليها شئنا أم أبينا. فخيار الرفض يحول دون استثمار كل الخدمات، التي تعرضها أجهزتنا اللوحية والمحمولة والساعات وتشغيل الموسيقى.
ماذا يحدث عند النقر فوق كلمة “موافق” لمجرد تحميل أي تطبيق أو برنامج؟
يعني علينا القبول بمحتوى مستندات ضخمة غير قابلة للتفاوض، ومكتوبة من قبل قانونيّ الشركات ولصالحها، في مقابل الوصول إلى خدماتها.
خدمة سيارات أوبر اقتدت بشركتي غوغل وفيسبوك، عندما وجدت القانون البريطاني لا يفي بمتطلباتها، فنصحت المشتركين باللجوء إلى القانون الأميركي
توجد قائمة طويلة جدا من البنود موزعة بذكاء واحتيال في شروط الخدمة لعمالقة الشركات التكنولوجية، أغلبنا يوافق على تلك الشروط الملزمة دون أن يقرأها، فهي غالبا ما تكون بحروف صغيرة جدا وفقرات طويلة غامضة وغير مفهومة تصل إلى مساحة نص شكسبيري، لكنه خال من المتعة الدرامية.
الأهم من ذلك أن غالبية المستخدمين لا يعرفون دلالة الموافقة، وهم يضغطون على كلمة القبول لاستمرار تحميل التطبيق أو لفتح حساب ما. مع أنهم يدركون أن هذا النص الطويل يمثل شروطا ملزمة لعقود خدمة الهواتف وأجهزة الكمبيوتر المحمولة واللوحية والتطبيقات والساعات وأجهزة القراءة الإلكترونية والتلفزيونات. وغالبا ما يعني الاتفاق السماح بإعادة بيع البيانات الشخصية للمستخدمين أو التنازل عن الحق في رفع دعوى أو الانضمام إلى دعوى قضائية جماعية ضد الشركات المجهزة.
حددت صحيفة “نيويورك تايمز” في تقرير اشترك في كتابته نخبة من محرريها المتخصصين في الشؤون القانونية والتكنولوجية، المشكلة الأساسية في العقود التي يقع إبرامها مع الشركات التكنولوجية العملاقة، بأن المستخدمين خاضعون في النهاية لشروط الشركات، لأنهم لا يملكون الوقت أو المقدرة الكافية لدراسة الشروط الطويلة ومخاطرها، فهذه العقود تتضمن أحكاما غامضة وتفسيرات قانونية مطولة تتعمد التشويش والتعتيم وليس التبسيط. بل إن المستخدمين على الأغلب لا يعتدون بفوائد تلك الشروط إن وجدت أصلا، فماذا عن أضرارها!
سبق وأن كشفت دراسة جامعية أن المستخدم العادي بحاجة إلى 76 يوما من القراءة المعمقة لفهم سياسات الشركات التكنولوجية. وبطبيعة الحال هذه الفرصة غير متاحة لجميع المستخدمين.
في جوهر ذلك العقد غير العادل بين المستخدمين والشركات، هناك ترتيب غير متوازن يضع عبئا على المستخدمين، فتحميل تطبيق على هاتف ذكي مثلا، يجبرك على توقيع عقد مع الشركة المجهزة يتكون من ستين صفحة على أقل تقدير، لا يوجد فيه ما يجعل المستخدم يفهم محتواه القانوني الملزم!
غالبية المستخدمين لا يعرفون دلالة الموافقة، وهم يضغطون على كلمة القبول لاستمرار تحميل التطبيق أو لفتح حساب
تلعب الشركات التكنولوجية على المفهوم القانوني للتخلص من المسؤولية بتأكيدها أن أيا من بنودها غير إلزامية، وإذا لم يرغب الزبائن في قبولها، فيمكنهم إغلاق حساباتهم أو رفض التسجيل في المقام الأول. لكن هذا الكلام يمثل خدعة معلنة لأن العديد من الشركات جعلت خدماتها ضرورية إلى درجة أن إلغاء الاشتراك ليس خيارا ممكنا، وغالبا ما يتم تقديم شروط جديدة للزبائن في اللحظة التي هم فيها بأمس الحاجة لاستخدام الخدمة.
هل بإمكاننا اليوم تجنب الاشتراك في منتج واحد من خدمات غوغل؟ وحتى لو أردنا إغلاق بريدنا الإلكتروني في غوغل، من يضمن لنا استعادة كل رسائلنا وصورنا؟
بالطبع لا يحدث مثل هذا التشويش والقلق عندما يشتري الإنسان بيتا، لأنه يعرف بوضوح ما يترتب عليه سواء بملكيته أو علاقته مع السلطات المحلية والبيئة والجيران، لكن كل من يمتلك حسابا على فيسبوك، عاجز عن سرد ما يترتب عليه في العقد الذي أبرمه مع شركة مارك زوكربيرغ!
برعت الشركات التكنولوجية عبر مستشاريها القانونيين في إدخال مصطلحات تفيدها على حساب المستخدمين، تتضمن أحكاما لا يوافق عليها معظم المستهلكين عن فهم مسبق، تمنح الشركات الحق في المطالبة بالائتمان أو تغيير أعمالها، والسماح لها بالاحتفاظ بالمحتوى حتى بعد حذف المستخدم لحسابه، والوصول إلى سجل التصفح الكامل له.
هناك بند في موضوع العقود بين المستخدمين والشركات يفيد بأنه يمكن تحديث الشروط في أي وقت دون إشعار مسبق. ذلك ما تصفه نانسي كيم، الأستاذة بكلية القانون بكاليفورنيا والمتخصصة بالعقود المبرمة عبر الإنترنت، بـ”إحدى الأدوات التي تستخدمها الشركات لتأكيد سطوتها على زبائنها وتقليل حقوقهم”. كما تفعل ذلك باستمرار تحديث الشروط والأحكام.
دعك من عبث الشروط المضحكة، مع ذلك نوافق عليها، خذ مثلا تطبيقات إيصال الأطعمة للمنازل التي تشترط على المستخدمين بنودا فيها الكثير من خفة العقل تتعدى خدمة الحصول على الطعام. وتهتم بطبيعة ومهمة من يوصل الطلبية!
خدمة سيارات أوبر مثلا، اقتدت بشركتي غوغل وفيسبوك، عندما وجدت القانون البريطاني لا يفي بمتطلباتها، فنصحت المشتركين باللجوء إلى القانون الأميركي “أي كوميديا قانونية هذه”، وهكذا يبدو الأمر في النهاية وكأنه مشكلة ذات أبعاد سياسية في العقد الذي نبرمه مع الشركات التكنولوجية التي باتت تحكم العالم.
توجد قائمة طويلة جدا من البنود موزعة بذكاء واحتيال في شروط الخدمة لعمالقة الشركات التكنولوجية، أغلبنا يوافق على تلك الشروط الملزمة دون أن يقرأها
يرى الكاتب مات ليفين في مقال له في “بلومبيرغ” قدرا هائلا من الأسباب التي تفرض علينا عدم الشعور بالارتياح حيال الشركات التكنولوجية الكبرى، لأن حفنة من الشخصيات حازوا على القوة عن طريق المصادفة، وربما الخطأ. وينقل ليفين عن رجل الأعمال الأميركي سام زيل قوله “لم يبلغني أحد أن لاري فينك قد تقابل مع الرب القدير من قبل حتى ينال كل هذه السلطة”. فينك هو المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة بلاك روك، الأكبر في العالم في مجال الاستثمار والحلول التقنية.
في النهاية يبدو أننا تعرضنا لـ”الضرب” من الشركات التكنولوجية العملاقة في عقود الاستخدام المبرمة معها إلى درجة بتنا نتقبل هذا الضرب، فقراءة شروط الخدمة غير معقولة لأنها مكتوبة بطريقة تثبط الناس عن قراءتها. وبالتالي إعفاء الشركات من أي مسؤولية عن الأضرار التي يمكن أن تلحق بنا.
كاتب عراقي مقيم في لندن
0 تعليقات