عبد الرازق أحمد الشاعر
لم يكن النمر سعيدا وهو يلجأ إلى ظل الشجرة الوحيدة في غابة شبه عارية ليمارس طقوسه اليومية في التثاؤب وهش الذباب عن رأسه وعينيه، فقد مرت شهور عدة وهو لا يجد عملا يعيد لأنيابه حدتها أو لهريره هيبته. وظل يتقلب على فراش من حصى وهو يندب حظه العاثر الذي ألقى به في تلك الغابة البائسة. كان صاحبنا يقضي وقته في مهمات عابثة، فيقطع طريق أسراب النمل بمخالبه المعقوفة تارة، ويطارد الفئران البرية إلى أعماق جحورها أخرى، حتى مرت به سلحفاة تسكن في الجوار ورأت مشاعر البؤس تفيض من عينيه.
"سمعت أنك تبحث عن عمل أيها النمر العزيز، فهل هذا صحيح؟" قالت السلحفاة. ولما رد النمر بالإيجاب، أكملت: "قرأت في جريدة النخيل أنهم يحتاجون إلى توظيف عدد من الأرانب في مزرعة البلدية، فلماذا لا تجرب حظك هناك؟" نظر النمر إلى السلحفاة مستنكرا: "لكنني لست أرنبا كما ترين. أم أن كبر سنك وضعف بصرك قد أثرا على قواك العقلية أيتها الكسيحة؟" نظرت إليه السلحفاة نظرة إشفاق وخوف، وقالت: "لا هذا ولا ذاك يا سيدي النمر، لكنني أعلم جيدا أنهم لا يهتمون بأصلك وفصلك طالما أن لديك أوراقا ثبوتية. وعلى من يدعي أنك نمر أن يثبت ذلك. الأمر لا يحتاج إلا إلى بعض الشهادات المزيفة وشهود الزور، وهؤلاء ما أكثرهم في غابتنا الفاضلة." وأطلقت السلحفاة ضحكة ممزوجة بالسخرية المريرة قبل أن توليه صدفتها وتمضي في حال سبيلها.
في الليل، قص النمر على صديقه الضبع ما قالته السلحفاة، فاستحسن مشورتها، ووعده بأن يجهز له ما أراد، على أن يلتقيا في الليلة القادمة في نفس المكان. ومر يوم طويل وممل، حاول فيه النمر أن يتلمظ بشفتيه ويقرض الجزر ويضع ذيله بين فخذيه كما يفعل الأرنب، حتى حل موعد المساء. وبالفعل، وفى الضبع بما عاهده عليه، وأتاه بالأوراق الثبوتية الدالة على أنه أرنب ابن أرنب.
وفي الصباح، وقف صاحبنا في طابور طويل في انتظار تسليم الأوراق وكشف الهيئة. وقام بفحصه والتثبت من شهاداته وأختامه جماعة من الجرذان المستأسدة. وعندما انتصف النهار، فوجئ بأنه كان أول المقبولين لشغل الوظيفة. ولم ينم صاحبنا ليلتها من شدة الفرح، فها هو أخيرا على مشارف مستقبل واعد ستتغير معه ملامح الأشياء. صحيح أنه لن يهرهر كما تعود، ولن يأكل اللحوم كما أراد، لكنها وظيفة على أي حال.
وفي أول يوم له في مزرعة البلدية، حاول النمر المتأرنب أن يبذل ما في وسعه لينال رضا رؤسائه هناك. وفجأة، ظهر أمامه أرنب برتبة نمر. فاغتاظ صاحبنا من صلافة هذا الأرنب ومن هرهرته المدعاة، وكاد أن يشتبك معه في صراع على القيادة، لولا أن نهره حصان برتبة جرو كان يراقبه من قريب. لكنه قرر أن يدافع عن حقوقه بكل ما أوتي من صغاب، وصمم أن يرفع شكواه لمدير الإدارة، مطالبا بمنحه نفس مستحقات الأرنب المتنمر، ومدعيا بأنه أولى بكل العلاوات والبدلات منه. فقام مدير الإدارة برفع الشكوى إلى الإدارة العامة. وبالفعل تشكلت لجنة من الفهود للنظر في الشكوى المقدمة، لكنها بعد التدقيق والتمحيص، قررت رفض الشكوى شكلا وموضوعا لأنها تشكك في نزاهة القائمين على أمور التعيينات والذين خلعوا عليهم من قبل درجة الفهودة بعد أن كانوا مجرد عنزات شاردة في دروب الغابة البائسة.
في غابة لا تميز المخالب من الأظلاف، ولا المواء من الزئير، عليك أن ترضى بما قسمه الموظِّفون لك، أو أن تقضي نصف نهارك وأنت تطارد ذباب البطالة أو تدافع عن حقك في التثاؤب الممض تحت شجرة الانتظار الخالدة. ليس من حقك أن ترفع ذيلك اعتراضا لو منحوك وسام خنفساء أو قرروا أن ينصبوك نمرا برتبة أرنب. وعليك أن تجتهد لتنال رضا أصحاب القرار دون أن تطعن في نزاهتهم حتى لو كانوا قرودا برتبة غزلان، فأنت في غابة تحكمها أعراف القبيلة، وطاعة السلطان واجبة بإجماع كل العنزات برتبة الفهود.
أنت عاطل يا صديقي لأنك لا تجيد تزييف الشهادات وتزوير الأختام والحصول على ثقة شهود الزور. وأبدا لن تكون صاحب رأي أو صاحب جريدة أو متحدثا يشار لك بالبنان لأنك لم تشتر الماجستير أو الدكتوراه أو تسعى لوساطة أصحاب اليد العليا في الدواوين والإدارات. قدرك أن تموء في ثياب نمر أو تنام على رصيف البطالة أبد الدهر في غابة غادرها المنطق وهجرها الوعي وحكمتها قوانين الوساطة والرشوة والمحسوبية. وقانا الله وإياك شر الوعي، وحفظنا وإياك من التمرد على قوانين القبيلة.
0 تعليقات