مختار الدبابي
تدخل تونس العام الجديد وليس في الأفق أي مؤشر على استقرار سياسي في ظل استمرار الصراع بين مصالح متناقضة ورغبات شخصية في الانتقام لدى أغلب الوجوه السياسية التي تعتقد أنها هي الأولى بأن تحكم، وإلا فإن الأسلم أن تحرق البلاد على أن تسلمها إلى خصومها السياسيين.
وكل جهة تريد أن تبدو وكأنها هي المالكة لمفتاح الحل، ولذلك تتوالد مبادرات الحل والحوار من كل جهة سياسية، والهدف ليس التوصل إلى أرضية مشتركة تفضي إلى استقرار سياسي، ولكن إلى إغراق الساحة بمشاريع ومبادرات تريد كل جهة أن يتم التفاوض حولها واعتمادها منطلقا للحوار الوطني، وإلا فلا حوار ولا استقرار.
وتشترك أغلب المبادرات في نقاط واضحة من أجل الوصول إلى الحل، لكنها تضم شروطا وأفكارا هادفة لتلغيم الحوار ودفعه إلى الفشل قبل عقده من خلال وضع خطوط حمراء أمام مشاركة هذا الطرف أو ذاك.
وإلى حد الآن نجد أن مختلف تلك المبادرات تستمد جل عناصرها من مبادرة حزب حركة مشروع تونس، الذي يرأسه محسن مرزوق الذي دعا إلى حوار وطني منذ مايو 2020، ثم توالت المبادرات بنفس الأفكار مع اختلاف الصياغات والشعارات التي تحفّ بها، لنجد مبادرة المعارض والسياسي البارز أحمد نجيب الشابي، ثم مبادرة التيار الديمقراطي لزعيمه المستقيل محمد عبو، والتي عرضت بدورها مؤتمرا وطنيا للحوار الاقتصادي والاجتماعي، مرورا بمبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل وصولا إلى مبادرة حسونة الناصفي، رئيس كتلة الإصلاح في البرلمان، وعبير موسي رئيسة الحزب الدستوري الحر.
وإذا كانت مبادرة اتحاد الشغل قد حظيت بدعم واسع بسبب وزنه الاجتماعي والسياسي، فإن بقية المبادرات جاءت لتسجيل الحضور السياسي وقطع الطريق أمام أي أرضية حوار يذهب ريعها لفائدة جهة أخرى.
كان يمكن أن توفر مبادرة اتحاد الشغل أرضية كافية لتنشيط الحوار الوطني والدفع نحو الاستقرار السياسي، بما يوفر للبلاد فرصا لمعالجة الوضع الاقتصادي والاجتماعي الصعب الذي تعيشه، لكنها وجدت فيتو من الرئيس قيس سعيّد الذي رشحته المبادرة لأن يشرف على الحوار الوطني.
ومن الواضح أن المبادرة لم ترق للرئيس سعيد لاعتبارات من بينها أن نتائج المبادرة ستعيد إنتاج الوضع الحالي، وإن نجحت ظرفيا في إخراج البلاد من أزمتها، فهي تقترح حلولا بالمحافظة على مكونات الأزمة الحالية. والرئيس سعيد يريد مبادرة تعالج أساس الأزمة، وهي تغيير النظام السياسي كليا، من خلال إلغاء الديمقراطية القائمة على البرلمان إلى ديمقراطية شعبية تعيد إنتاج تجربة اللجان الثورية في حكم العقيد الليبي الراحل معمر القذافي.
كما أن مبادرة الاتحاد ستمثل قارب نجاة للتحالف البرلماني الذي يحرك حكومة التكنوقراط من وراء الستار، وهو ما لا تريده مؤسسة الرئاسة، التي تراهن على أن استمرار الأزمة سيزيد من فرص الوعي الشعبي بالتغيير الجذري، وفضح منظومة الحكم الحالية والوقوف على حقيقة الأحزاب وارتباط أغلبها بقضايا فساد.
ويقطع موقف الرئيس سعيد الطريق على مبادرة هي الأكثر قدرة على تجميع الفرقاء والضغط من أجل تقديم تنازلات جدية للخروج من أفق الأزمة، خاصة ما تعلق بوضع شروط لانتخابات جديدة تكون قادرة على إفراز برلمان مغاير عبر تغيير القانون الانتخابي.
كانت هذه المبادرة ستوفر فرصة ضغط حقيقية على حركة النهضة وحزب “قلب تونس” من أجل القبول بحكومة وحدة وطنية تؤمّن إجراء انتخابات سابقة لأوانها، مثل ما جرى في الحوار الوطني سنة 2013 الذي أفضى إلى تشكيل حكومة مهدي جمعة التي استمرت إلى حدود انتخابات 2014.
استثناء حزب "قلب تونس" من الحوار تحت عنوان رفض مشاركة "الفاسدين"
وفيما تشترط مبادرة اتحاد الشغل استثناء ائتلاف الكرامة (الإسلامي الشعبوي) من المشاركة في الحوار، تأتي الإشارات من مؤسسة الرئاسة التونسية إلى ضرورة استثناء حزب “قلب تونس” من هذا الحوار تحت عنوان رفض مشاركة “الفاسدين”، في إشارة إلى وضعية رئيس الحزب نبيل القروي.
في مقابل ذلك تشترط النهضة استثناء حزب عبير موسي من الحوار الوطني، والأخيرة تقدم مبادرة تضع خطا أحمر أمام مشاركة النهضة وائتلاف الكرامة.
وأيا كانت مبررات كل جهة، فإن الشروط المسبقة لا تمنح فرصا لنجاح الحوار الوطني الذي سيتحول إلى لعبة لتسجيل النقاط على الخصوم، وعرقلة مبادرات الإصلاح خاصة ما تعلق بتغيير قانون انتخابي أعرج، وضع لبناء برلمان هدفه الوحيد هو إنتاج صراع حزبي وأيديولوجي يجعل الناس تنقم على الديمقراطية والانتقال السياسي في البلاد، بدل أن يكون عنصرا رئيسيا في تعميق هذا الانتقال وإشاعة الأمل في تغيير حقيقي.
وبالنتيجة، فإن البلاد ستدخل عام 2021 في حالة من التشتت وتحتاج إلى مبادرات لبناء تحالفات قوية قادرة على إحداث توازن مع حركة النهضة، التي تبدو إلى حد الآن هي المستفيد المباشر من استمرار الصراعات السياسية، فهي في الحكم منذ انتخابات أكتوبر 2011، وترشحها مختلف الاستطلاعات لأن تكون طرفا رئيسيا في أي انتخابات قادمة ما لم يتم تغيير القانون الانتخابي.
ولا شك أن حركة النهضة تستفيد من صراع مكونات ما بات يعرف بالتيار الوسطي، الذي يضم مجموعات وكتلا برلمانية تفرّعت عن حزب نداء تونس الذي فاز بانتخابات 2014 من خلال نجاحه في تجميع القوى المناوئة للإسلاميين.
ورغم أن استطلاعات نوايا التصويت تعطي الحزب الدستوري الحرّ موقعا متقدما، في أي انتخابات قادمة، إلا أن هذه الاستطلاعات لا تحجب حقيقة العناصر المؤثرة في الانتخابات، وهي أن انقسام الجبهة الوسطية سيقود إلى انقسام ناخبيها أو دفعهم إلى المقاطعة، ما يوفر فرصة جديدة لحصول حركة النهضة على كتلة برلمانية وازنة.
ويمكن أن نستحضر هنا تجربة الانتخابات الرئاسية الأخيرة، حيث كانت استطلاعات الرأي تضع المرشح عبدالكريم الزبيدي في موقع متقدم تماما مثل يوسف الشاهد، لكن تحركهما داخل نفس الخزان الانتخابي أفضى إلى خسارتهما من الدور الأول.
إن حل الأزمة السياسية في البلاد، لا يمر فقط عبر تغيير القانون الانتخابي، أو التخطيط للالتفاف حول نتائج 2019 بتغيير الحكومة، والدعوة إلى انتخابات برلمانية مبكرة، فليس هناك ما يمنع من الحصول على نفس المشهد، أي الوصول إلى برلمان مشتت وكتلة إسلامية وازنة تكون محددا في تشكيل الحكومة، ونعود إلى مربع “توافق الضرورة” الذي اضطر إليه نداء تونس في 2014 وقلب تونس في 2019 وربما الدستوري الحر في 2024 أو في انتخابات مبكرة.
مع العلم أن هذه الأحزاب قد وضعت في حملاتها التحالف مع حركة النهضة خطا أحمر، لكن التوازنات البرلمانية ووضع البلاد والمصالح الحزبية كلها عناصر تقود إلى القرار الصعب، أي بناء تحالف هجين مع الإسلاميين أو مع “قوى ثورية” يحوّل البلاد إلى ساحة للصراعات بدل أن يشرع في مهمة الإنقاذ.
إن الحوار الوطني على شاكلته الحالية سيظل يدور في حلقة مفرغة مثل القصة الشهيرة لـ”جمل بروطة” الذي يدور حول نفسه لاستخراج الماء في بئر مدينة القيروان.
0 تعليقات