دنيا ميخائيل ... تستدعي مطراً … قراءة لمقتطفات من قصيدة ( الحرب تعمل بجد)...

مشاهدات



-  جاءت دنيا بالموصوف في مطلع قصيدتها، لتبني  سياق أبياتها على نسق معتدل

-  عكست واقعا غير ملتبس على القارئ يعطي شعرها نكهة مغايرة


سعد الدغمان


جاءت دنيا بالموصوف في مطلع قصيدتها، لتبني  سياق أبياتها على نسق معتدل ضمنته ( الوصفي) ، كي يكون القارئ على بينة من أوصاف ذلك الحدث  المهول ( الحرب)، والصفة كما نعلم في اللغة تتبع الموصوف ، وهنا أضفت دنيا ميخائيل صفة الجدية والنشاط على حركة الحرب، وهي طارئة وليست عامة، باستخدامها ( الإيحاء) ضمنيا بأن ما تريده ميخائيل على غير ما تصف.

فمن يمدح ( حرباً) بتلك الصفات والنعوت، هي نشطة نعم في كل شيء سوى الحياة، وهذه لاتمدح بل تستهجن، أي ان دنيا ميخائيل أرادت عبر استخدامها الوصفي  ووالإيحاء لتصل إلى تكريس الإستهجان  من الحرب التي قالت عنها  (نشطة وبارعة) لكن بقبض الأرواح.

مطلع قصيدة دنيا ميخائيل يحيلنا إلى المدرسة الكلاسيكية ( مدرسة السياب والبياتي) ،وأرى أن هناك تأثير واضح على نصوص ميخائيل أضفاها ذلك المنهج على شكل ومنحى القصيدة، وهي ميزة تحتسب لها  كونها تلتزم بأثر واضح لمسارات المدرسة الكلاسيكية التي أسسها الرواد يتقدمهم  رائد الشعر الحر (السياب).

كم هي مجدّةٌ الحرب

ونشطة

وبارعة‍!

منذ الصباح الباكر

تبعثُ سيارات إسعاف

إلى مختلف الأمكنة

تؤرجح جثثاً في الهواء

تزحلق نقالات إلى الجرحى

تستدعي مطراً من عيون الأمهات

تحفُر في التراب

تُخرج أشياء كثيرة

من تحت الأنقاض

استخدمت دنيا ميخائيل لغة خاصة لا إفراط فيها، وأنتجت عبرها تجربة  حياتية حقيقية عكستها بواقع أبياتها، لذلك تجد قصائدها غير ملتبسة على القارئ ، مايعطي شعرها نكهة مغايرة أو متفردة تحتسب لدنيا.

عملت  ميخائيل على أزدواجية المعنى لتخرج قصيدتها محل الدراسة وكأنها مزيج من عالم متناغم محكوم بلغة الحرب والمعاناة التي تخلفها تلك الصراعات مولدة واقعا اجتماعيا مترعا بالصراعات ، يقينا منها بأنها لاتبعد القارئ عن المشهد الذي تنتقده ، فالحرب استثناء من قوانين الإستقرار الطبيعي الذي يعيشه الإنسان.

الحربُ تواصلُ عملها صباح مساء

تُلهمُ طغاةً لإلقاء خطب طويلة

تمنحُ الجنرالات أوسمةً

والشعراءَ موضوعاً للكتابة

تساهمُ في صناعة الأطراف الإصطناعية

توّفُر طعاماً للذباب

تضيفُ صفحات إلى كتاب التاريخ

تحققُ المساواة بين القاتل والقتيل

تعلّمُ العشاقَ كتابة الرسائل

تدرّبُ الفتيات على الانتظار

تملاٌ الجرائد بالمواضيع والصور

تشيّدُ دوراً جديدة لليتامى

تنشّطُ صانعي التوابيت

تربتُ على أكتاف حفاري القبور

ترسمُ ابتسامةً على وجه القائد

إنها تعملُ بجد لا مثيل له

ومع هذا لا أحد يمتدحها بكلمة .

عملت دنيا على قراءة الحرب بتجرد وواقعية ابعدتها عن الصيغ الجامدة والقالب الضيق،تلك الواقعية رسمت الأفق دون تزويق  بقصائدها، وسجلت صرختها الاعتراضية على ذلك النهج المدمر. وداخلت ميخائيل المنهج الوصفي بالإعتراضي لتنتج اسلوبا جديدا يفضي لمساحة واسعة من حرية الكلمة  التي أوردتها بأبياتها.

تساؤلات عدة ضمنتها قصيدتها لتوضح من خلالها الغموض الذي قد يعتري ذهن القارئ ، فسرتها فيما بعد من خلال وصف ما تطرقت له من مشهد تتخلله أقتباسات التشبيه ( طويلة كالحرب، حمراء كالتاريخ)، لتخرج منها بصور منطوقة غير مبهمة وبوضوح تام يفسر حبكة الحدث الذي بنت عليه قصيدتها.

من أين لي أن أعرف يا أميركا

بابا نويل

بلحيته الطويلة كالحرب

وبزته الحمراء كالتاريخ

وقف بابا نويل مبتسماً

وسالني أن أطلب شيئاً

أنتِ فتاة طيبة؛ قال

لذلك تستحقين لعبة

ثم أعطاني شيئاً يشبه الشعر

ولأنني ترددتُ…

طمأنني: لا تخافي يا صغيرتي

أنا بابا نويل

أوزع الجمالات للأطفال

ألم تريني من قبل؟

وفي موضع أخر سعت دنيا ميخائيل لاستخدام الإسقاط على الصورة الموصوفة، فجاءت كذلك بالتشبيه المقترن بالحدث العام ،ولتخرج منه بدلالات الحدث نحو تركيز ذهن القارئ  دون تشتيته إلى مداخيل أخرى قد تبعده عن المضمون.

ومنها أن ذهبت للتاريخ كملاذ تنهي به أبيات ماكتبت لتصف القادم ، وهي محاولة قيمة من دنيا أبدعت فيها بإستحضار الماضي وتجسيد الحاضر عبر تفاصيله ، فمن التشبيه الذي بنت عليه الحوار  ذهبت بإتجاه ماسيكون لتوظف عنصر الزمن لإستكمال صورتها الشعرية.

أجادت ميخائيل فعلا باستخدام عناصر العمل الأدبي، وأبدعت في رسم صورها بإتقان عبر حروفها المنمقة ، لتخرج لنا مشهدا فذا زانته أبياتها بروعة استخدامها لتلك العناصر المكملة لجمالية القصيدة.

قلتُ: ولكن بابا نويل الذي اعرف

يرتدي بدلة عسكرية

ويوزع علينا كل عام

سيوفاً حمراً

ودمى للأيتام

وأطرفاً اصطناعية

وصوراً للغائبين

نعلقها على الجدران

بعد الف سنة وسنة

شخص سيتحدث الى شخص اخر

اسواق ستكون مفتوحة لزبائن عاديين

شابات ستتمشى

في الشوارع

ولا احد يختطفهن

دنيا ميخائيل ولدت في بغداد سنة 1965 وحصلت على بكالوريوس (الأدب الإنكليزي) من جامعة بغداد ، كلية الآداب، وماجستير آداب شرقية من جامعة ” وين ستيت” الأمريكية. تعيش حاليا في ولاية ميشغان وتُدرّس  اللغة العربية هناك. كما نالت جائزة حقوق الإنسان في حرية الكتابة من الأمم المتحدة  2001.

ومن أعمالها المنشورة: “مزامير الغياب” (دار الأديب البغدادية ، بغداد ، 1993)،يوميات موجة خارج البحر” (دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1995 ). ومنها  طبعة ثانية، صدرت عن دار عشتار (القاهرة ، 2000)،على وشك الموسيقى” (دار نقوش عربية، تونس، 1997) والحرب تعمل بجد” (دار المدى، دمشق، 2001).. حصلت دنيا على عدة جوائز منها جائزة (حقوق الإنسان في حرية الكتابة من الامم المتحدة عام ٢٠٠١) ، وجائزة ( PEN  ) للشعر المترجم عام ٢٠٠٤ ، و رشح كتابها (الحرب تعمل بجد) الى جائزة (غريفن للشعر )عام ٢٠٠٦.

إرسال تعليق

0 تعليقات