العراق الفيدرالي بين حكمتين

مشاهدات



علي الصراف


السلطة المركزية لن تعود لتكون نهبا لميليشيات مزقتها الخارطة الفيدرالية. وحتى لو نشأ طغيان، فإنه سيكون أقل ضررا، طالما أنه لا يتحكم بكل شيء.

أمل في مستقبل أفضل

وجود سلطة وطنية في عراق موحد، هو الوضع الأمثل. ولكن الحكمة تقول “ما لا يُدرك كُله، لا يُترك جُله”.

لقد مضت 17 عاما على تحويل العراق إلى حطام. ونجح الإيرانيون والأميركيون، كل بطريقته الخاصة، في تحويل هذا البلد إلى مستنقع للجريمة والفساد.

الجميع دفع الثمن. الإيرانيون أنفسهم لم يكسبوا الكثير. فالمال الحرام الذي جنوه من فساد عملائهم لم يتحوّل إلى مشاريع بناء وتطوير في إيران. والشعب الإيراني ظل يتضوّر فقرا وجوعا، وخزينة بلاده تقف على حافة الإفلاس. الكثير من الفضل في هذا يعود إلى العقوبات المفروضة على إيران. إلّا أن المال الحرام ذهب إلى طرق الحرام ليغذي فساد الإيرانيين الخاص.

أما الأميركيون الذين تكبدوا نحو تريليون دولار من الخسائر، وخمسة آلاف قتيل ونحو 50 ألف جريح، فلا يستطيعون القول إنهم كسبوا شيئا عظيما من غزو العراق. وبالرغم من أنهم جنوا من الفساد حصتهم الطبيعية إلا أنها ظلت شيئا هزيلا أمام الدولة الفاشلة التي قاموا بإنشائها. وحتى عندما أرادوا الفرار، فإن صمغ المصالح الهزيلة، والأماني الضائعة، ظل يلصقهم بالمشاكل هناك. حتى أصبح وجودهم عرضة للتهديد، ليكون جبروت القوة العظمى عرضة للإهانة.

العراقيون هم الذين دفعوا الثمن الأكبر. فانهيار الدولة، وتحولها إلى جمهورية عصابات مسلحة، جلبا لهم من الرزايا ما لم يكن يخطر على بال.

عمليا، ما من شيء، إلّا وكان عرضة للتخريب. من التعليم المتردّي إلى الأمن، وإلى كل وجه من وجوه الخدمات العامة، وإلى مؤسسات الدولة نفسها التي أصبحت خاضعة لتلك العصابات. وملثما طغى الفساد على الحكومة فتحوّلت نهبا لكل أفّاق ودجّال وشرير، فقد تحوّل البرلمان إلى مستنقع لكل طرف فيه رائحة عفنه الخاصة.

الأكراد خسروا في النهاية تطلعاتهم الانفصالية. وعلى الرغم من أن الشعب الكردي تمكن من تحصين نفسه من بعض الخراب، فإن العيش في بيئة الفساد التي تعمّ العراق، منحت بعض قياداتهم الفرصة نفسها لكي ينهلوا حصتهم. إنهم في وضع أفضل من باقي العراقيين، ولكنهم ليسوا سعداء بما هم عليه، ولا تزال المخاطر تتهدّدهم، ولا تزال العشائرية السياسية تعني أن كل ما تمّ بناؤه قابل للتصدع.

لا يمكن القول إن شيعة العراق نجوا من الحريق. لقد وجدوا أنفسهم في أتون الجحيم عندما لم تجد جمهورية العصابات سبيلا لإنصافهم كـ”مكوّن”، ولا لرفع “المظلومية” عنهم. ولقد حصل ذلك، لأن “المظلومية” التي تقدمت في إطار تصور “طائفي” قبيح، لم تكن هي المظلومية التنموية التقليدية التي تعاني منها الأطراف الهامشية عادة حيال المركز.

لقد حصل الشيعة على الحق في الركض إلى كربلاء في مسيرات جماعية. ولكنهم كانوا يركضون جياعا ومشردين. حصلوا على الحق في اللطم على الحسين، ولكنهم سرعان ما اكتشفوا أن من الأولى بهم أن يلطموا على فقرهم وعوزهم وبؤسهم. وعندما زاد الحمل على أكتافهم، انفجروا ليتصدروا واحدة من أعظم الانتفاضات في تاريخ العراق، طولا وعرضا، ضدّ عصابات إيران، وضدّ المشروع الطائفي نفسه.

السنة دفعوا الوجه الآخر للثمن، تدميرا وهدما للمدن، وتشريدا للملايين، وتقتيلا وتنكيلا، وكل ما شاءت عصابات إيران أن ترتكبه فيهم من الجرائم. يوما بعد يوم، عاما بعد عام، ومن دون انقطاع.

هناك حقائق انجلت خلال الأعوام السبعة عشر الماضية. أحد أهمها هو أن “المشروع الوطني” لا يزال قاصرا عن أن يكون هو قوة التغيير.

الفيدرالية نظام ليس لتقاسم السلطة بين أربع عصابات أو خمس، إنها نظام لإدارة محلية مستقلة خاضعة لإشراف شعبي أقرب إلى القاعدة الاجتماعية، كما أنه نظام أكثر فاعلية لمراقبة المركز

بالحسابات العملية، فإن جمهورية العصابات لا تزال تملك القدرة على البقاء والتحكم في مصير البلاد.

وما لم تسفر الانتخابات المقبلة عن نظام جديد، يفرضه الناخبون ممّن التهمَ ثيابَهم الحريق، فإن الأمل في التغيير سوف يتبدد. وحليمة سوف تعود إلى عادتها القديمة. وهذا هو الأرجح.

ما هو البديل، عندما يقصر المشروع الوطني عن التغيير؟

لقد كان الافتراض السائد لدى القوى الوطنية العراقية هو أن المشروع الفيدرالي الذي تبناه نائب الرئيس الأميركي السابق والرئيس المنتخب الآن، جو بايدن، هو مشروع لتقسيم العراق.

هذا غير صحيح. الفيدرالية ليست تقسيما بالضرورة. هناك دول فيدرالية عديدة، ومنها الولايات المتحدة نفسها، لا تعاني من مشاعر التقسيم. ولا حاجة إلى أن يستصغر العراقيون أنفسهم بالقول: نحن لسنا ألمانيا، ولا سويسرا، لكي نكون فيدراليين إلى ذلك الحد.

القسط الفيدرالي القائم، لإقليم كردستان العراق، هو حقيقة راسخة على أيّ حال. الوطنية الحقيقية تستوجب تأكيدها وترسيخها، بحيث يتاح لأكراد هذا البلد أن يشعروا بأنهم يحكمون أنفسهم بأنفسهم بالفعل. الانتماء إلى العراق سيكون حقيقيا وأكثر صدقا، لأنه سيكون انتماء إرادة حرة ومصالح مشتركة، وليس انتماءً جغرافياً قسرياً، أو قائما على الإكراه.

الفيدرالية نظام ليس لتقاسم السلطة بين أربع عصابات أو خمس. إنها نظام لإدارة محلية مستقلة، خاضعة لإشراف شعبي أقرب إلى القاعدة الاجتماعية، كما أنه نظام لمراقبة المركز. هذه الإدارة تقدم موارد، وتتلقى تمويلات، لكي تنفقها في إطار أكثر فاعلية للمحاسبة والتدقيق.

الفساد سوف يتفكك. ويكون خاضعا لمراقبة أدق. ولو امتدت الفيدرالية ليكون العراق مؤلفا من 18 ولاية، بعدد محافظاته، فذلك أفضل من “ثلاثة أقاليم”، لاسيما وأن المعنى الطائفي وراء هذا “التقسيم” هو القبح الوحيد. ولكن حتى هذا مفيد، إذا ما انتهى إلى تقليص أدوات الهيمنة لدى عصابات الولي الفقيه.

وجود إقليم فيدرالي سني، مستقل على نحو استقلالية إقليم كردستان، يمكن أن يحدّ من تلك الهيمنة، ويحمي جزءا من شعب عزيز من عصف الجريمة الذي لم ينته. بل ويمكن أن يتحوّل إلى مركز للوطنية العراقية، وقوة مناهضة للمشروع الطائفي وأداة للتغيير.

أفضل من ذلك، فإن نظاما فيدراليا قائما على أساس 18 ولاية، هو السبيل الأمثل. ويمكن لهذا النظام أن يتخذ من أي نظام فيدرالي نموذجا ليقتفيه. من سويسرا إلى الولايات المتحدة. ولو “قصّ ولصق”. لكي لا نترك للفقر الثقافي ونقص الخبرة والانحطاط القانوني السائد أن يتشاطر على شيء أو على أحد.

وكل ولاية تقف أمام مصيبتها الخاصة لتداويها بما تجده مناسبا. ولكل منها حاكم، وحكومة محلية، ومجلس نواب، وشرطة، وترسل للمركز نوابا للبرلمان بحسب عدد السكان، وعضوين إلى مجلس الشيوخ، وتشارك في انتخابات رئاسية، وليفعل الرئيس ما يشاء. وحتى لو جاء إلى السلطة صعلوك، فإنه سيظل محكوما بقيود.

السلطة المركزية لن تعود لتكون نهبا لميليشيات مزقتها الخارطة الفيدرالية. وحتى لو نشأ طغيان، فإنه سيكون أقل ضررا، طالما أنه لا يتحكم بكل شيء.

ما لا يُدرك كله، لا يُترك جله، حكمة أفضل من أن ينتهي المشروع الوطني إلى حكمة أخرى تقوللا حَظَت برجيلها ولا خذت سيد علي”.

إرسال تعليق

0 تعليقات